مقالات

حديثة

« فلسطين--- أولاً »

المحــامية :  ماجدة محمود الزفري 

سنة النشر :2003 /  جميع الحقوق محفوظة ©

« فلسطين--- أولاً »

 

- في فِلَسْطين عرف العرب قمة التحدي، وعلى أرض فلسطين سوف يتقرر المستقبل العربي.

- في فلسطين يواجه العرب قضيتهم المصيرية الكبرى، ومع ذلك لا مفرّ من الإقرار بأننا شعباً وأمة ـ لإنزال بعيدين عن إدراك خطورة هذه القضية وجوانبها المختلفة والعيش معها إلى المدى المطلوب.

- إن الوقائع التاريخية تثبت بما لا يقبل الشك وعي الشعب العربي الفلسطيني المبكر على أخطار الصهيونية والاستعمار. ونؤكد بشكل قاطع أنه: "شعب لا يلين".

- ولئن روت المجازر ظمأ الصهيونية إلى الدماء، فهي لم تحقق لهم أهدافهم؛ وهذا يعود لأمرٍ بسيط وهو: أن الشعب العربي الفلسطيني لم ينقرض. وأن انتماءه إلى أمته العربية لم يهتز، كما لم يضعف إصراره على تحرير ترابه الوطني الذي هو حق مشروع له.

- إن هذا الشعب الجبار قد ناضل نضالاً مريراً لمقاومة أخطار الصهيونية. وقد اتخذت المقاومة العربية الفلسطينية للصهيونية أشكالاً عديدة، وتبنّت مختلف الأساليب والوسائل الكفاحية. من الاحتجاج، إلى المقاطعة، فالأحزاب، فالعصيان المدني فالثورة، فالانتفاضة الفلسطينية العارمة.

- والانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب العربي الفلسطيني. والتاريخ يعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر. وأن حرب التحرير التي يخوضها شعبٌ مضطهد سوف تنجح حتماً.

- إن حرب التحرير الفلسطينية تنبع من أنبل الدوافع الإنسانية. التي هي إقامة العدل في الأرض وتحرير الوطن من المغتصب، والقضاء على الاحتلال، وتنفيذ مقررات الشرعية الدولية فمصدرها هو الأمل والمقدرة على التضحية بالذات، وليس اليأس والرغبة في تفجيرها إنها تعبير عن امتلاء إنساني وأخلاقي حقيقي، ولولا هذا لما كُتب لها الاستمرار، ولما أتى مئات المتظاهرين والاستشهاد بين المفعمين بالأمل والرغبة في تحرير الأرض.

- حرب التحرير ـ انتفاضة الأقصى ـ أعادت إلى الوجدان العربي والإسلامي إحساسه بمقدرته على تغيير الواقع وعدم الاستسلام للظلم، ومن هنا ثورة الشارع العربي على الظلم، وإرساله رسائل للعالم بأسره بأنه لا يمكن السكوت على ما يحدث في فلسطين.

- إن انتفاضة الأقصى ثورة عارمة بددت الوهم الغربي؛ بأن الشارع العربي لا وجود له وأن الأجيال العربية الجديدة التي نمت وترعرعت في إطار ما يسمى "ثقافة السّلام" والتي كانت من المقدّر لها أن تتمركز حول نفسها وتنسى فلسطين والفلسطينيين؛ لتحقق لنفسها المتعة من خلال معدلات متصاعدة من الاستهلاك، هذه الأجيال بدأت تبعث بالرسائل الواضحة بأن البطش الصهيوني الذي يتم بأسلحة أمريكية ودعم سياسي واقتصادي غربي. لن يُقابل بسلبية بلهاء. وإنما سنتصدى له وسيدفع الجزّار الثمن!..

المحامية ماجدة الزّفري


 

ـ الرحيل الأول ـ

قالت صديقتنا: أتبقى في الربيع بلا زهور؟

قلت: اهدئي بعد الربيع، سأهيم وحدي في البحار النائيات.

فغنى النساء الساحرات، والنور والنار والدموع.

ودليل مركبي الجسور.

عينان خضراوان أنفاس الحياة.

ليلاً تهبُّ عليّ من وطني البعيد.. فِلَسْطين..

حيث الشموع المطفّآت؛ في مخدعي المهجور ننتظر اللهيب..

وخيال أمي الراعش الباكي الكئيب..

تومي إليَّ بأن أعود..

وإلى خطا ساعي البريد..

تصغي.. وتصغي.. ليس في الدنيا جديد..

حتى الرسائل لا تعيد.

"صلِّ لأجلي أنت يا أماه.. من وطني البعيد"

وتظلُّ تلثمها كأن غداً في وجهها الكئيب.

وحيث أخوتي الصغار يتساءلون: "متى أعود؟.."

والليل يمضي.. والنهار.. وأنا.. أنا وحدي أجوب.

عرس البحار مع الغروب.. ودليل مركبي الطروب..

عينان خضراوان.. آلهة الربيع

من عالم الموتى.. من أفق الدموع..

إن ضاع أمسي في انتظارك.. أيها النجم السعيد

فغداً على الأمواج إيماني يعود..

بك أيها النجم السعيد

ابنة فلسطين ـ حيفا

المحامية ماجدة محمود الزفري

مقدمة

- في فِلَسْطين عرف العرب قمة التحدي، وعلى أرض فلسطين سوف يتقرر المستقبل العربي.

- في فلسطين يواجه العرب قضيتهم المصيرية الكبرى، ومع ذلك لا مفرّ من الإقرار بأننا شعباً وأمة ـ لإنزال بعيدين عن إدراك خطورة هذه القضية وجوانبها المختلفة والعيش معها إلى المدى المطلوب.

- إن الوقائع التاريخية تثبت بما لا يقبل الشك وعي الشعب العربي الفلسطيني المبكر على أخطار الصهيونية والاستعمار. ونؤكد بشكل قاطع أنه: "شعب لا يلين".

- ولئن روت المجازر ظمأ الصهيونية إلى الدماء، فهي لم تحقق لهم أهدافهم؛ وهذا يعود لأمرٍ بسيط وهو: أن الشعب العربي الفلسطيني لم ينقرض. وأن انتماءه إلى أمته العربية لم يهتز، كما لم يضعف إصراره على تحرير ترابه الوطني الذي هو حق مشروع له.

- إن هذا الشعب الجبار قد ناضل نضالاً مريراً لمقاومة أخطار الصهيونية. وقد اتخذت المقاومة العربية الفلسطينية للصهيونية أشكالاً عديدة، وتبنّت مختلف الأساليب والوسائل الكفاحية. من الاحتجاج، إلى المقاطعة، فالأحزاب، فالعصيان المدني فالثورة، فالانتفاضة الفلسطينية العارمة.

- والانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب العربي الفلسطيني. والتاريخ يعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر. وأن حرب التحرير التي يخوضها شعبٌ مضطهد سوف تنجح حتماً.

- إن حرب التحرير الفلسطينية تنبع من أنبل الدوافع الإنسانية. التي هي إقامة العدل في الأرض وتحرير الوطن من المغتصب، والقضاء على الاحتلال، وتنفيذ مقررات الشرعية الدولية فمصدرها هو الأمل والمقدرة على التضحية بالذات، وليس اليأس والرغبة في تفجيرها إنها تعبير عن امتلاء إنساني وأخلاقي حقيقي، ولولا هذا لما كُتب لها الاستمرار، ولما أتى مئات المتظاهرين والاستشهاد بين المفعمين بالأمل والرغبة في تحرير الأرض.

- حرب التحرير ـ انتفاضة الأقصى ـ أعادت إلى الوجدان العربي والإسلامي إحساسه بمقدرته على تغيير الواقع وعدم الاستسلام للظلم، ومن هنا ثورة الشارع العربي على الظلم، وإرساله رسائل للعالم بأسره بأنه لا يمكن السكوت على ما يحدث في فلسطين.

- إن انتفاضة الأقصى ثورة عارمة بددت الوهم الغربي؛ بأن الشارع العربي لا وجود له وأن الأجيال العربية الجديدة التي نمت وترعرعت في إطار ما يسمى "ثقافة السّلام" والتي كانت من المقدّر لها أن تتمركز حول نفسها وتنسى فلسطين والفلسطينيين؛ لتحقق لنفسها المتعة من خلال معدلات متصاعدة من الاستهلاك، هذه الأجيال بدأت تبعث بالرسائل الواضحة بأن البطش الصهيوني الذي يتم بأسلحة أمريكية ودعم سياسي واقتصادي غربي. لن يُقابل بسلبية بلهاء. وإنما سنتصدى له وسيدفع الجزّار الثمن!..

المحامية ماجدة الزّفري

في نقابة المحامين بالجمهورية العربية السورية

 

الفصل الأول

لمحة جغرافية وتاريخية

ـ أ ـ

الأهمية الجغرافية لفلسطين

- تعتبر فِلَسْطين(1) قلب الوطن العربي، وواسطة عقده، وقبلة أنظاره. ومهد الديانات التوحيدية الكبرى في التاريخ، وملتقى الحضارات، وهي بلاد خيّرة جميلة، ومن أهم بقاع الأرض قاطبة من النواحي الاستراتيجية والسياحية والدينية.

موقع فلسطين: تقع فلسطين في الغرب من قارة آسيا بين خطي عرض [29.30 و33.15] وبين خطي طول [34.15 و35.4] شرقي غرينتش، وتتوسط مفارق الطرق بين آسيا وإفريقية وأوروبا. وتصل ما بين البحر الأبيض المتوسط (الموصول بالمحيط الأطلنطي) والبحر الأحمر وجزء من المحيط الهندي ويحدها من الغرب البحر الأبيض المتوسط. ومن الشرق سورية والأردن، ومن الشمال لبنان وسورية.. ومن الجنوب شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة(2).

مساحة فلسطين: تبلغ مساحة فلسطين حوالي /27009/ كيلو مترات مربعة بما يعادل /10429/ ميلاً مربعاً. وهي مستطيلة الشكل يبلغ طولها من الشمال إلى الجنوب نحو /430/كم. وأما عرضها فيتراوح في الشمال بين /51 و70كم/. وفي الوسط يتراوح العرض بين /72 و95كم/ بينما يتسع في الجنوب حتى يصل إلى نحو /117/كم.

تنقسم فلسطين من الوجهة الطبيعية إلى الأقسام التالية:

1ً- المنطقة الساحلية: وهي تشمل السهل الساحلي الفلسطيني الممتد من رأس الناقورة إلى رفح. ويكاد الساحل الفلسطيني يكون مستقيماً ليس فيه موانئ طبيعية صالحة لرسو السفن. وخصوصاً إبان العواصف والأنواء.

وأما أهم المدن والموانئ الواقعة في المنطقة الساحلية فهي:

غزة ـ حيفا ـ يافا ـ عكا

ويعتبر الساحل الفلسطيني الجسر الذي يصل آسيا بأفريقية وأشهر الممرات الحربية في التاريخ. كما أن أشجاره تنتج أشهر أنواع البرتقال في العالم.

2ً- المنطقة الجبلية: التي تمتد في وسط البلاد "كعمود فقري" وتشغل ثلثي أرض فلسطين وتضم:

- جبال الجليل ـ جبال نابلس ـ جبال القدس.

وفي هذه المنطقة تقع معظم الأماكن المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود وهي:

- القدس ـ الخليل ـ بيت لحم ـ الناصرة ـ نابلس ـ صفد.

3ً- منطقة الغور: وهي تقع شرقي فلسطين، ويخترقها نهر الأردن مع بحيراته، وهذه المنطقة قسم من الانخفاض العظيم الذي يبدأ من: جبال طوروس في آسيا الصغرى ويستمر جنوباً؛ ماراً بسورية والبحر الميت وخليج العقبة، لينتهي في بحيرة فكتوريا بأواسط أفريقية، والغور نسيج وحده في العالم من حيث انخفاضه عن سطح البحر، يتدرج ليصل إلى /392/ متراً عند شاطئ البحر. وهو أشد انخفاض أرضي في العالم كله. ومن أهم مدنه "أريحا ـ بيسان".

4ً- منطقة بئر السبع والصحراء الفلسطينية: وهي تحتل نصف مساحة فلسطين، وتشكل القسم الجنوبي من فلسطين، وتشبه مثلثاً يقع رأسه عند خليج العقبة شاملاً الأراضي الواقعة بين قطاعي غزة والخليل، وبين شبه جزيرة سيناء، وشرقي الأردن وجنوبي البحر الميت.

وتعتبر "بئر السبع" مدينة المنطقة الوحيدة، ويسكنها البدو والرّحل وشبه الرحل(1). وكانت بئر السبع ممراً تجارياً هاماً في العالم المتمدن القديم. كما كانت مهداً لانطلاقة النبي إبراهيم.. ومسقط رأس ابنه البكر إسماعيل. جد العرب العدناني(2).

-ب-

- الأهمية التاريخية لفلسطين -

يشهد تاريخ فلسطين أن وضعها الجغرافي، وصلتها الحميمة بالأراضي المجاورة، حدّدا على مر الزمن تطورها ومصيرها. لقد كان مصير فلسطين دوماً مرتبطاً بأوضاع الجزيرة العربية ومصر وسورية والعراق.

ففي أواخر الألف الرابع. وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد. تعرضت فلسطين لموجة عربية سامية كبيرة هي الموجة المعروفة باسم "الآمورية الكنعانية"، فنزل الأموريون داخل بلاد الشام وجنوبها الشرقي. واستوطن الكنعانيون ساحلها وجنوبها الغربي أي: (فلسطين).

ويُرجّح أن الكنعانيين في البدء كانوا يقطنون سواحل الخليج العربي الغربية، قبل نزوحهم إلى الساحل السوري (شواطئ سورية وفلسطين ولبنان). ونسبة لهؤلاء سميت فلسطين بـ"أرض كنعان". وكان أقدم اسم سميت به البلاد. وبقيت للكنعانيين السيادة ما يقرب من /1500/ سنة. أي من /2500ق.م  إلى نحو /1000/ق.م. حين تمكّن اليهود من إعلان مملكتهم. وفي هذه الفترة توطنت عدة قبائل أخرى اشتهرت بالتجارة (3).

وحدث أثناء فترة سيطرة الكنعانيين نحو عام /1805/ق.م، أن هاجر النبي إبراهيم (والذي يرجّح أنه أموري من العرب الذين أسسوا الدولة البابلية في العراق) - هاجر إلى بلاد الشام واستقر بعد فترة في شيكم (أي نابلس) في فلسطين، ثم ما لبث أن انتقل إلى بئر السبع(1).

وفي عام 1794/ق.م. رُزق إبراهيم ولده إسماعيل جد العرب العدناني، وهو الذي وصل بين فلسطين وبين النبي العربي "الذي ينتسب للعدنانيين" والمسلمين إذ قام مع أبيه ببناء الكعبة المشرفة. وبعد مولد إسماعيل بنحو /أربع عشر سنة/ رزق النبي إبراهيم من زوجته الأولى "سارة" ولده الثاني (إسحاق) والد يعقوب الذي لقب بإسرائيل؛ والذي أُطلق اسمه على جميع ذرية يعقوب. ونزح يعقوب وأولاده الذين بلغ عددهم بضع عشرات إلى مصر نحو عام /1656/ ق.م. بسبب القحط الذي نزل بفلسطين. وهناك استعبدهم فراعنة مصر. فاضطروا إلى النزوح من مصر بقيادة النبي "موسى" بعد إقامة دامت حوالي /400/ سنة.

أما قصة نهجهم الحربي في فتح فلسطين على يد "يوشع" فمدونة في أسفار العهد القديم "صعد الشعب إلى المدينة -أريحا- وأهلكوا كل من في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".

مملكة يهودية في فلسطين: وعلى الرغم من الفظائع التي ارتكبها يوشع في ترسيخ هذه المملكة اليهودية والانتصارات التي أحرزها فإن سيطرته على فلسطين لم تكن كاملة. إذ بقيت الكثير من المدن الكنعانية خارج سيطرة اليهود كما أن استيطان الفلسطينيين، وهم أول من نزل أرض كنعان من سكان أوروبا (كريت) في غزة وجوارها، وامتداد استعمارهم حتى الكرمل أخذ يهدد وجود القبائل اليهودية المتناثرة؛ مما دفع هؤلاء إلى جمع كلمتهم في وحدة مؤقتة، ونصبّوا "شاول بن قيس" ملكاً عليهم نحو عام /1020/ق.م. وقُتل شاول بن قيس بعد ستة عشر عاماً من توليه الملك على أيدي الفلسطينيين في إحدى معاركه معهم؛ وتولى الملك من بعده "داود بن يسي" فأدخل المركبات الحربية في الجيش، وحارب الفلسطينيين وانتصر عليهم وعلى غيرهم من الأقوام التي كانت تقطن فلسطين وشرقي الأردن وبطش بهم.

وفي مطلع حكم داود كانت "الخليل" عاصمة ملكة، لكنه انتقل إلى القدس إثر فتحه لها وجعل "جبل صهيون" مقراً لحكمه، وبنى عليه قلعة وقصراً من خشب الأرز اللبناني.

وفي عهد داود بلغت المملكة اليهودية أقصى اتساعها، فامتدت من جبل الكرمل وتل القاضي إلى جبل الشيخ شمالاً. وإلى حدود مصر ونهر الموجب جنوباً وإلى الصحراء شرقاً.

ولكن الساحل الفلسطيني الممتد من شمال يافا إلى جنوب غزة كان تابعاً لمصر. وبالتالي فإن عموم فلسطين لم تقع تحت حكم اليهود؛ حتى في ذروة فتوحاتهم.

وخلف داود ابنه "سليمان الملقب بالحكيم".. والذي تميز عهده بالازدهار التجاري والعمراني. وشيّد المعبد المعروف بـ"هيكل سليمان" وذلك بمساعدة الفينيقيين إلا أنه لم يتمكن من المحافظة على جميع أجزاء المملكة التي ورثها عن أبيه. ففي أواخر عهده أدى التذمر من الضرائب المرهقة إلى انقسام اليهود؛ فكان ذلك إيذانا بأفول عزهم الذي لم يدم أكثر من /70/ سنة.

انقسمت مملكة سليمان إلى قسمين: مملكة إسرائيل في الشمال.. ومملكة يهوذا في الجنوب. وقد نشبت ينهم حروب ونزاعات كثيرة ولا سيما في ما يتعلق بالشؤون الدينية.

وعاشت المملكة الإسرائيلية نحو قرنين (923-722) ق.م وكان القسم الأكبر من أهالي المملكة وملوكها يعبدون الأوثان، وكانت نهاية إسرائيل على يد "الآشوريين" الذين سبوا نخبة أهلها إلى بلادهم في العراق.

أما المملكة اليهودية فقد اشتملت على القسم الجنوبي من فلسطين. وكانت أفقر من أختها في الشمال؛ ودامت نحو /136/ سنة بعد خراب المملكة الشمالية.

وكانت المملكتان خاضعتين في معظم فترات حياتهما لنفوذ الدول القوية المجاورة في في العراق ومصر، وكانت نهايتهما على يد "بختنصر الكلداني" الذي فتح القدس وأحرق الهيكل وبيت الملك عام /586/ق.م. وسبى زهاء /50.000/ خمسون ألف أسير نقلهم إلى بابل.

ويذهب المؤرخون إلى أن اليهود كانوا أدنى حضارة ورقياً من الكنعانيين وأنهم اقتبسوا من هؤلاء الكثير من حضارتهم وثقافاتهم وآدابهم وطقوسهم وأن كل ما شيد في عهد اليهود من قصور وهياكل، إنما تم بمساعدة الفينيقيين.

مكث اليهود في بابل (أي العراق) نحو /70/ سنة وهي فترة تُعرف بـ"السبي البابلي" فغيّر خلالها لسانهم، وتنوعت آدابهم، فلما استولى "كورش" ملك الفرس على بابل عام 539/ ق.م. ومن ثمّ على بلاد الشام؛ أمر بإرجاع اليهود الذين ساعدوه حين فَتح بابل.

ولكن قسماً من هؤلاء؛ آثروا البقاء في بابل حيث كانوا يتعاطون التجارة، وقد تمكّن الذين عادوا إلى القدس من أن يعيدوا في عام /516/ ق.م؛ بناء هيكلهم الذي تهدم عام /586/ق.م كما تمكنوا من وضع مجموعة قوانين دينية عُرفت بالديانة اليهودية. وجعلوا رئيس كهنتهم زعيماً لهم.

امتد عهد الفرس في فلسطين من عام /538-إلى عام 332 ق.م/ وكانت نهايته على يد الإسكندر المقدوني الذي نشر قواده الذين تولوا الحكم بعد موته -الثقافة اليهودية- بين اليهود، وفرضوا عليهم آدابهم وحضارتهم، فانقسم اليهود إلى قسمين:

- قسم اقتدى باليونان وحضارتهم الراقية.

- قسم آخر تعصّب لعقائده الدينية. وتشبث بأساليب الحياة اليهودية التقليدية.

وكان من نتائج هذا التشديد على اليهود قيام ثورة بقيادة العائلة "المكابية" عام /167/ق.م ويعزو "أرنولد توينبي" نجاح الثورة المكابية إلى تأخر اجتياح الجحافل الرومانية للمنطقة على أثر ضعف الدولة السلوقية؛ لا إلى قوة المكابيين الذاتية.

وسرعان ما تحوّل المكابيون من ثورة على الاضطهاد، ومقاومة لفرض الحضارة الهلينية (اليونانية) على اليهود، إلى قوة اضطهدت الشعوب التي كانت تعيش في فلسطين وشرقي الأردن أبشع اضطهاد. وفرضت الدين اليهودي عليها قسراً في الفترة الواقعة ما بين -102 و76-ق.م.

ويشير /أرنولد توينبي/ إلى أنه من سخرية القدر أن شعب "الجليل" الذي تهوّد بالقوة قد أنجب "يسوع المسيح" الذي عارضه زعماء اليهود في ذلك العصر. مما أضاع على اليهودية مستقبلها.

ومن الخطأ الاعتقاد أن سيطرة المكابيين على المنطقة المشار إليها كان مطلقاً فقد كانوا موضع تحدي العرب الأنباط(1) الذين بسطوا سيطرتهم على جنوبي فلسطين عندما امتدت مملكتهم في أوج مجدها من سهل البقاع شمالاً؛ حتى مدائن صالح (شمالي الحجاز) جنوباً.

وقد نشبت بين المكابيين والأنباط معارك عديدة، كان النصر في معظمها للأنباط.

ثم جاءت نهاية الأنباط على يد الرومانيين الذين بسطوا سيطرتهم على البلاد. وعينوا "هيرودوس بن انتيباتر" الأدومي (وأمُّه عربية من الأنباط) ملكاً على اليهود عام /37/ق.م. وكان على صلة حميمة بالإمبراطور (أغسطس) وعلى الرغم من تهوده وإعادة بنائه للهيكل، فقد كرهه اليهود لأنه لم يكن من جنسهم، ولأنه نشر الحضارة الرومانية واليونانية التي يكرهونها فحقَد عليهم هيرودوس الروماني.

ميلاد المسيح: وفي آخر سنة من حكم /هيرودس/ حوالي العام الرابع /4 ق.م/ ولد المسيح في "بيت لحم" ونشأ في مدينة "الناصرة".

وعاش المسيح طول حياته في فلسطين، ونشر فيها تعاليمه. وكان أكثر تلاميذه وحوارييه من الجليل. والمعروف أن الدعوة النصرانية لقيت مقاومة شديدة من اليهود، كما أن المسيحية لقيت اضطهاداً كبيراً من الرومان حتى مطلع القرن الرابع الميلادي؛ حين تنصّر الإمبراطور "قسطنطين" وشيّد عدة كنائس في فلسطين أشهرها:

- كنيسة القيامة في القدس.

- كنيسة المهد في بيت لحم.

نهاية صلة اليهود بفلسطين: وعلى الرغم من المعاملة المميزة التي منحها الرومان لليهود؛ كإعفائهم من عبادة الإمبراطور وخدمة الجيش، وبقاء أحكامهم الدينية في يد محاكمهم الخاصة، فقد استمر الاحتكاك بين الطرفين الرومان واليهود- بما أدى في النتيجة إلى ثورة اليهود عام /66/ ميلادية. التي سُحقت عام /70/م؛ على يد (طيطوس) الروماني بمساعدة الفرق العربية السورية والآرامية الموضوعة تحت قيادته.

ولكن اليهود ثاروا مرة أخرى بقيادة سمعان المدعو "بركوكب" والذي ادعى أنه "المسيح المنتظر". وتم القضاء على هذا الثورة على يد "هدريان" الذي نكّل باليهود أشد تنكيل، ومنعهم من دخول القدس والسكن فيها، بل وحتى الدنو منها.

والجدير بالذكر أن ثلاثة أرباع اليهود؛ كانوا يسكنون خارج فلسطين قبل سقوط القدس بمدة طويلة "ولم يكن لجماهير اليهود المبعثرين في الإمبراطورية الإغريقية (اليونانية) ثم في الإمبراطورية الرومانية؛ إلا اهتمام ثانوي جداً بالمملكة اليهودية في فلسطين".

وبثورة "بركوكب" انتهت صلة اليهود بفلسطين حتى القرن التاسع عشر وازداد تشتتهم في مختلف أقطار العالم في أوروبة وآسيا وأفريقيا.

وهكذا نجد أن اليهود لم يدخلوا إلى فلسطين إلا في حقبة متأخرة من الزمن. ولم يحكموا البلاد إلا مدة قصيرة نسبياً، ناهيك بأنهم لم يحكموا سوى أجزاء من فلسطين حتى في ذروة عزهم. ولقد تميزوا بالتعصب الشديد. واستعداء الشعوب الأخرى التي كانت تقطن المنطقة، كذلك يلاحظ أنهم توزعوا في البحر الأبيض المتوسط في وقت مبكر سعياً وراء التجارة والرزق. ولم يعد يربطهم بفلسطين سوى الحنين إلى (جبل صهيون) أي القدس.

ومن هنا لخّص "هـ. ج وولز" في كتابه "موجز التاريخ" تاريخ اليهود "العبرانيين" بما يلي:

"كانت حياة العبرانيين في فلسطين" تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار.. ومن البدء حتى النهاية لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم بكثير".

اليهودية ليست عرقاً: من الخطأ النظر إلى اليهود على أنهم عرق، أو جنس، لقد هوّدوا سكان الجليل بالقوة. كما أنهم طُردوا من روما عام /139/ق.م لتهويدهم بعض السكان وتابع اليهود أيضاً عملية التهويد في العصور اللاحقة "وقد ساهمت عملية تهويد العبيد القسرية واعتناق الخزر وشعوب أخرى هذا الدين خلال التشتت الطويل" في جعل اليهود خليطاً عرقياً متنافراً. ولم يكن ما اكتسبوه من خصائص مميزة كمجموعة إنسانية إلا بفعل الظروف الاجتماعية والوظيفة الاقتصادية لليهود عبر القرون، لقد ضاعت الوحدة العنصرية لليهود رغم الطابع التقوقعي والقبلي للديانة اليهودية. كما فقدوا اللغة المشتركة أي (العبرية)؛ فأخذوا يتكلمون لغات ولهجات مختلفة حسب الموقع الجغرافي الذي يقطنونه.

وتدل الدراسات الموضوعية العلمية على أن اليهود الحاليين ليسوا عنصراً متجانساً وبالتالي فإن الحنين الصهيوني إلى فلسطين، وحق اليهود في (العودة) إلى صهيون أي (القدس) إنما هو خرافة ووهم. فضلاً عن أن عرب "فلسطين" هم السكان الشرعيين للبلاد منذ أقدم العصور قبل ظهور اليهود فيها.. وبعد رحيلهم عنها.

ذلك أن صلة العرب بفلسطين لم تنقطع منذ أن كانت تُعرف بـ(أرض كنعان) أي قبل "أربعة آلاف سنة ونيف". وقد ترسخت هذه العلاقة بقيام دولة الأنباط ودولة تدمر والغساسنة. وجميعهم من العرب الذين فرضوا قدراً من السيطرة السياسية العربية على فلسطين في فترات متقطعة قبل الفتح الإسلامي.

فِلَسْطين في ظل الحكم العربي الإسلامي: كان ظهور الدعوة الإسلامية، وتحقيق وحدة القبائل العربية في الجزيرة على يد الرسول العربي العظيم محمد بن عبد الله القرشيe.. إيذاناً بانهيار جيوش الرومان وحصونهم في جميع المناطق المجاورة للجزيرة العربية.

وفي عام /636/ ميلادية. رفع المسلمون علم العرب المسلمين على بيت المقدس "القدس" وخرج أهل القدس يستقبلون الفتح الإسلامي مرحبين بخليفة المسلمين "عمر بن الخطاب" وبالروح السامية والقيم العالية التي حملها الفاتحون العرب؛ بهديٍ من رسالتهم الإسلامية والتوحيدية، ذلك أن العرب المسلمين وعلى نقيض غيرهم من الفاتحين حرصوا على حقن الدماء وحماية الصغير والكبير وحفظ كرامة الأقوام وحقوقها. وكانت روح التسامح الإسلامي سبب طلب البطريرك "صفر ونيوس" ممثل المسيحية في فلسطين من الخليفة عمر بن الخطاب أن يستمر منع اليهود من سكن القدس. واستجابةً لطلب "صفرونيوس" أعطى الخليفة عمر بن الخطاب العهد التالي:

"هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمين أهل إيلياء (القدس) من الأمان أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانها، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا ينقص منها ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحدهم منهم، ولا يُسكن إيلياء (القدس) معهم أحد من اليهود.

وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فهو آمنٌ على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن قام منهم (فهو) آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم. ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى صلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.

ومن كان فيها أي (إيلياء) من أهل الأرض. فمن شاء منهم قعد. وعليه مثل ما على أهل (إيلياء) من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.

"كتب سنة /15/ هجرية. وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان".

وبعد إعطاء هذا العهد ألقى الخليفة "عمر بن الخليفة" خطبته المشهورة في جموع المسلمين الفاتحين في القدس. وأذّن على إثرها بلال "مؤذن الرسول" أول مرة بعد وفاة الرسول الكريمr. وسمع الصحابة صوته، فتذكّروا صاحب الرسالة الإسلامية محمدr فبكوا كثيراً.

وتعتبر القدس من أقدس بقاع الأرض عند المسلمين؛ فإليها أُسري بالرسول العربيr من المسجد الحرام (مكة) إلى المسجد الأقصى (القدس) الذي بورك حوله، ثم عرج منه إلى السماوات العلى: يقول سبحانه وتعالى في سورة الإسراء:

 -بسم الله الرحمن الرحيم -

 )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ((1)

صدق الله العظيم

وفي ليلة الإسراء فُرضت على النبي محمدr الصلوات الخمس اليومية أول أركان الإسلام. وشيّد الخليفة عمر بن الخطاب "بالقرب من الصخرة المقدسة التي صعد منها النبي ليلة الإسراء “مسجداً” ما لبث هذا المسجد أن تطور أيام الخليفة الأموي “عبد الملك بن مروان" عام /690/ ميلادية إلى آية من آيات الفن المعماري وأصبح "محجة" للمسلمين حتى اليوم.

ووارى ثرى فلسطين ألوفاً من صحابة الرسول وتابعيهم وأشهرهم "أبو عبيدة بن الجراح" قائد الجيوش الإسلامية التي فتحت فلسطين. وعلاوة على ذكر القدس في القرآن الكريم. فهناك الكثير من أحاديث الرسولr التي تدور حولها.

كذلك فإن الأماكن المسيحية والإسلامية المقدسة في فلسطين أكثر من أن تُعد وتُحصى. ناهيك بمئات المساجد والمزارات والزوايا المنتشرة في طول البلاد وعرضها. والتي تُعتبر ذات منزلة خاصة عند مختلف الطوائف الإسلامية.

وفي ظل الإسلام شهدت فلسطين الانتعاش والازدهار، فكَثُرت فيها المعاهد العلمية والدينية، وأنجبت العديد من العلماء والمفكرين، ورجال الفقه والقانون والقضاء والقادة العظام. نذكر منهم القائد العربي العظيم “موسى بن نصير” فاتح الأندلس، و"عبد الحميد الكاتب" سيد الإنشاء. والملك "شرف الدين الأيوبي" المجاهد ضد جيوش الصليبيين و"المقدسي" صاحب فضل بيت المقدس و"الإمام الشافعي" صاحب المذهب المعروف بالمذهب الشافعي..

أما بالنسبة للمسيحيين العرب. ففلسطين هي كعبتهم وقبلتهم، ففيها ولد سيدنا المسيح في (بيت لحم). وعاش في (الناصرة). ومنها انطلقت الديانة المسيحية. ولا شك أن روابط المسيحيين الشرقيين بالقدس وبكنائس فلسطين؛ له أعمق الأثر في تعلقهم بالأرض المقدسة. وفي تعاطفهم مع الأمة العربية، وحقها التاريخي في تقرير مصيرها وسيادتها على الوطن العربي بأسره.

وتميزت معاملة العرب والمسلمين لليهود بـ"التسامح" فلقد نظر الإسلام نظرة احترام للدين اليهودي. واعتبر أنبياء اليهودية من رسل الله. إذ ورد ذكرهم عشرات المرات في القرآن الكريم الذي أمر بمعاملة اليهود في ظل الحكم العربي الإسلامي معاملة حسنة؛ فبرز منهم العلماء والكتاب والمترجمون والموسيقيون كما كانت الديار الإسلامية ملجأ اليهود الأمين، يقصدونه كلما اشتدت وطأة اضطهاد أوربا لهم، ولا سيما في أواخر القرن الخامس عشر والسادس عشر. عندما لجأ يهود أسبانيا وغيرها. هرباً من "محاكم التفتيش" إلى (المغرب العربي) حيث قوبلوا بالتسامح ولاقوا المعاملة الإنسانية الكريمة.

ما هي الصهيونية؟..

الصهيونية ليست ظاهرة يهودية كما يدعي الصهاينة، وإنما هي إفراز للتشكيل الاستعماري الغربي. بل هي شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني الذي يقوم باغتصاب الأرض من أصحابها؛ وبطرد سكانها الأصليين منها وإبادتهم إن أمكنها ذلك. شأنها شأن كل الجيوب الاستيطانية الأخرى.

لقد تم تأسيس دولة إسرائيل عام /1948/ على الجزء الأكبر من فلسطين، ثم تم الاستيلاء على الجزء المتبقي في حرب حزيران عام /1967/، وبدأت بعدها عمليات مصادرة الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة وبناء المستوطنات عليها.

ثم أقيمت مستوطنات داخل مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية إلى أن تحوّل بعضها إلى مدن مثل "مستوطنة معالي أدوميم".

وخلال العام الأخير من ولاية "نتنياهو" وطوال فترة ولاية "باراك" تكثفت عملية توسيع المستوطنات وتضاعفت مساحتها في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الممتدة من عام /1993/ وحتى /2000/.. أي منذ توقيع اتفاقية "أوسلو".

ظاهرة الاعتدال والتطرف لدى الصهاينة:

يقول بعض دعاة المهادنة والاستسلام إن جوهر الصراع نفسي، وأنه لا بد من اجتياز الحواجز النفسية والفكرية بيننا وبين المستوطنين الصهاينة، وهذا لن يتحقق إلا بإدخال الطمأنينة إلى قلوبهم، وإشعارهم بالأمن، وإن فعلنا ذلك، سيسود شكلٌ من أشكال الاعتدال بينهم بدلاً من التطرف الذي اكتسحهم.

وحينما يحدث ذلك سيجلس ممثلوا المستوطنين إلى مائدة المفاوضات، ويتباحثون مع الفلسطينيين بشكل عقلاني، حتى يصل الجميع إلى صيغة معقولة ترضي كل الأطراف المتنازعة.

وما يتجاهله دعاة الاستسلام هؤلاء: إن الصراع العربي الصهيوني لم ينشأ بسبب حالة نفسية، أو حالة عقلية؛ وإنما نشأ لأسباب موضوعية ملموسة وهي: أن كتلة بشرية غربية وافدة جاءت إلى الأرض الفلسطينية فاستولت عليها وطردت شعبها ولا يمكن إصلاح الوضع إلا بإرجاع الأرض إلى أصحابها وعودة الشعب الذي طُرد.

ولكن يظل السؤال يطرح نفسه: ما هو تفسير هذا التطرف الصهيوني المتزايد؟ وما هو سر هذا التأييد الشعبي لأراييل شارون؟ لِم لمْ يولّد الخوف من الهجمات الاستشهادية قدراً من الاعتدال؟ أليس انتخاب "شارون" دليل قاطع على صدق مقولة دعاة وقف الانتفاضة؟ فشارون المتطرف حلّ محل باراك المعتدل بسبب الهجمات الاستشهادية للإجابة على هذه الأسئلة لا بد أن نشير إلى أن المستوطنين يدركون السكان الأصليين من خلال /3/ أنماط أساسية:

الإنسان الغائب ـ الإنسان الهامشي ـ الإنسان الحقيقي.

وهذه الأنماط ليست ثابتة أزلية، وإنما تتغير بتغيّر الظروف، شأنها في هذا شأن أية خريطة إدراكية. فموازين القوى قد تساهم في تقويض نمط إدراكي، كما قد تساهم في دعم هذا النمط الإدراكي. ويمكن تلخيص هذه الفكرة على النحو التالي:

أولاً: في حالة اتجاه موازين القوى لصالح المستوطنين وضد صالح السكان الأصليين: فإن هذه الموازين ستدعم الإدراك الاستيطاني العنصري المتحيّز. وسيرى المستوطنون بأن البنية (الاستيطانية) الاحتلالية قد حققت لهم الأمن الذي يبغونه، والمستوى المعيشي المرتفع الذي يتطلعون إليه، وسيساهم ذلك في تحويل الواقع التاريخي إلى شيء هامشي باهت؛ ويتدّعم البرنامج السياسي الاستيطاني (الاحتلالي) بوصفه مرشداً للتعامل مع الواقع ويهمّش السكان الأصليين /الفلسطينيين/ إلى أن يغيبوا تماماً من شاشة الوجدان الاستيطانية. ومن خريطة المستوطنين الإدراكية.

ثانياً: في حالة اتجاه موازين القوى لصالح السكان الأصليين وضد صالح السكان المستوطنين: يتولد قدراً من الواقعية لدى المستوطنين؛ إذ يكتشفون أن البنية الاستيطانية (الاحتلالية) لم تحقق لهم الأمن الذي يريدونه؛ ولا الرفاهية التي يبغونها؛ ومن ثمّ تظهر على شاشة وجدانهم صورة السكان الأصليين. وتتعدّل خريطتهم الإدراكية تدريجياً وتتناسب درجة التحول تناسباً طردياً مع حجم المقاومة ودرجة تزايدها، وتساهم عملية إعادة صياغة الإدراك في تبديد الأوهام والأساطير الإيديولوجية، أي أن ميل موازين القوى لصالح السكان الأصليين يؤدي إلى ترشيد العقل الاستيطاني؛ ولكن تحلل الخريطة الإدراكية يُعد من أكثر التجارب إيلاماً، ولهذا يُلاحظ أنه قبل الوصول إلى مرحلة الواقعية والاعتدال يمرُّ المستوطنون عادة بمرحلة من "التطرف والوحشية" دفاعاً عن خريطتهم الإدراكية، ولا تستمر هذه المرحلة لفترة طويلة في المعتاد إن استقرت موازين القوى لصالح السكان الأصليين من خلال استمرار مقاومتهم.

وهذا ما حدث في “جنوب إفريقية” فمع تصاعد مقاومة السكان الأصليين للمستوطنين البيض؛ لجأ البيض للبطش وضرب المقاومة بيدٍ من حديد "على الطريقة الشارونية" ولكن المقاومة استمرت؛ بل وتصاعدت رغم بطش النظام العنصري؛ إلى أن اكتشفت المستوطنون البيض عدم جدوى الإرهاب المؤسسي وانتهى الأمر بسقوط النظام العنصري أي أن تطرف المستوطنين هو مؤشر حقيقي على أن الرسائل المسلحة التي يرسلها السكان الأصليون بدأت تصل إليهم، وأن التطرف والشراسة ليسا سوى "المرحلة قبل الأخيرة" التي تسبق تحطم الأسطورة والرضوخ للأمر الواقع.

ولما كنا نعيش في عالمٍ يؤمن بالحواس الخمسة. وبكل ما يقاس، عالم يستند إلى القوة والبطش، فإن إيصال القيم غير المحسوسة مثل الحق والعدل للعدو، يتطلب الضغط على حواسه الخمس من خلال العديد من الرسائل المسلحة، حتى يعرف أن "العربي الحقيقي" ليس مجرد صورة باهتة في وجدانه يمكنه تغييبها، وإنما هو "قوة واقعية" يمكن أن تسبب له خسارة فادحة إن هو تجاهلها، أولاً حاول تهميشها وتهشيمها.

ولعل هذا هو القصور الأساسي في محاولات التوصل للسلام - حسب الشروط الصهيونية - فقد ظن مهندسو هذه الاتفاقيات أنهم عن طريق رفع رايات السلام، والاعتدال والحديث الهادئ على "مائدة المفاوضات" سيغيّرون صورة العربي في وعي العالم. ويهدئون روع الصهاينة، ويقنعونهم بأنهم معتدلون وراغبون في السلام. ولكن الذي يحدث هو عكس ذلك تماماً. فكلما ازداد "الاعتدال" العربي؛ زاد التطرف الصهيوني وزاد التمسك بالمستوطنات وبكل شبر من الأرض المحتلة.

والعكس بالعكس. فكلما زاد "التطرف" العربي. أي المقاومة والحوار المسلح ازداد الصهاينة رشداً واستعداداً لتقبُّل فكرة السلام الذي يستند إلى العدل والمقررات الدولية بدلاً من السلام حسب الشروط الصهيونية أي (الاستسلام الكامل).

إن بنية إسرائيل ذاتها بنية غير طبيعية. ولذا فإن التطبيع معها غير ممكن؛ فهي دولة لا ترى نفسها باعتبارها دولة لمواطنيها؛ وإنما هي "دولة لكل يهود العالم" ولهذا السبب فإنها أصدرت قانون: (العودة الصهيوني العنصري) والذي يعطي الحق لأي يهودي في العالم أن يهاجر إلى فلسطين المحتلة (بعد فترة غياب مزعومة لحوالي 2000 عام) وحتى لو كان هذا اليهودي لا يود الهجرة -والحقيقة أن معظم يهود العالم لا يرغبون ذلك. بينما يُحرم من هذا الحق الفلسطيني المتنزع والمطرود من أرضه ووطنه منذ فترة خمسين /50/ عام على الأقل. والذي يربض في مخيمات اللاجئين بجوار الوطن السليب، يقرع أبوابه بشتى الطرق ويحاول دخوله.

والدولة الصهيونية تقع في الشرق الأوسط، ولكنها تؤكد أنها فيه ولكنها ليست منه. وهي دولة تعتمد اعتماداً كاملاً على الغرب وعلى معونات يهود العالم؛ فكيف يمكن أن تنشأ علاقات طبيعية (التطبيع) مع هذه الدولة العنصرية "المتحندقة(1)" داخل عنصريتها؟ والتي تستمد حياتها من خارج المنطقة. وتواصل إشعال الحروب وشنها على من يحيط بها!..

سقوط الإجماع بخصوص الاستيطان:

تصوّر الحركة الصهيونية نفسها بأنها حركة "التحرر الوطني للشعب اليهودي" وأنها ستقوم بجمعه في وطنه القومي. أي (كامل أرض فلسطين). وأن المستوطنين هم طليعة هذا الشعب وهي بذلك إنما تتجاهل آلاف السنين (التاريخ العربي) وملايين البشر (الفلسطينيين أصحاب الأرض).

ولكن.. ومع تصاعد الانتفاضة تساقط هذا الجانب من الأسطورة الصهيونية، وبدلاً من رؤية المستوطنين باعتبارهم طليعة الشعب اليهودي بدأت بعض الأصوات الإسرائيلية بل والصهيونية تتعالى ضدهم، ومما يفاقم الأمور النزعة الاستهلاكية الترفيهية لدى هؤلاء الصهاينة، فمن المعروف أن الدافع وراء الاستيطان في الضفة الغربية ليس دافعاً دينياً أو قومياً، بل هو دافع استهلاكي. فهم يبحثون عن حياة مترفة رخيصة.

ويرى كثير من الدارسين أن الاستيطان هو جوهر الصهيونية بل /عمودها الفقري/ وما لم يدركه الكثيرون في الوقت الحاضر أن نوعية المستوطن الصهيوني في غزة والضفة الغربية؛ تختلف تماماً عن نوعية المستوطن في الماضي، فالمستوطن الجديد شخص مرفه يبحث عن أرضه ولذته ولا يريد أن يحمل البندقية أو المحراث.

ومع "اتفاقية أوسلو" تراجع السخط على الاستيطان، واستمرت المؤسسة الصهيونية في التهام الأرض الفلسطينية، ولكن مع اندلاع انتفاضة الأقصى عاد الهجوم على المستوطنات مرة أخرى من قبل المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة قبل عام /1967/ فبدأت الصحف الإسرائيلية تتحدث عن الاستيطان باعتباره (ورماً)(2) والسرطان الذي يأكل جسد المجتمع الإسرائيلي. كما تتحدث الصحف عن المستوطنات باعتبارها (مصيدة الموت)(1) ومصنعاً للإرهاب(2).

وقد وصف "آهارون مجيد" تصاعد السخط على الاستيطان في الضفة الغربية والقطاع في هذه الكلمات:

[ منذ أن توالت هذه العمليات (الفدائية) التي توقع الضحايا بالعشرات، لم يمضِ يوم ولا ساعة لم توجه فيها إدانات وانتقادات للمستوطنين، من على كل منصة ومن كل ميكروفون (دم القتلة في رقبتهم). كتاب المقالات في الصحف لا يضيّعون فرصة للتشهير بهم والبصق في وجوههم. والمحللون الاقتصاديون أيضاً يعزون كل المشاكل التي ألمت بهم (كتخفيض الفائدة -ارتفاع سعر الدولار- الفقر- البطالة) إلى المستوطنات التي تمص دم الدولة](3).

ومن أهم علامات سقوط الإجماع الصهيوني بخصوص الاستيطان موقف مستوطني عام /1948 من الطرق الالتفافية والحواجز وتغليف القدس ورفض الخدمة العسكرية والنزوح وسنعرض بادئ ذي بدء هذه الأمور:

أ-الطرق الالتفافية:

من المعروف أن المستوطنين الصهاينة ادعوا أن فلسطين أرض بلا شعب، وأنهم جاءوا لاكتشافها ولإصلاحها، ولكنهم بدلاً من ذلك اكتشفوا أن فلسطين أرض ليست عامرة بسكانها فحسب؛ بل إن سكانها هؤلاء مصممون على مقاومتهم. وعلى الانتفاضة ضدهم المرة تلو المرة. وأخيراً على خوض المعارك العسكرية ضدهم.

والطرق الالتفافية. هي إحدى آليات التوسع الصهيوني؛ إذ يتم الاستيلاء على معظم الأراضي اللازمة لبناء هذه الطرق من خلال أوامر "وضع اليد" بدعوى الضرورة الأمنية -مما يجعل الملاك غير قادرين على الاحتجاج ضدها- ووضع اليد هذا /هو إجراء تمهيدي للمصادرة النهائية/. وتؤدي هذه الطرق إلى إتلاف آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية. وتدمير مئات المنازل، وإلحاق خسائر فادحة لأن هذه الأراضي مزروعة بكثافة بأشجار الزيتون. الأمر الذي يؤدي إلى تدمير مصدر رزق العائلات الفلسطينية الوحيد.

وقد علَّق "زئيف شيف" على السرعة الهيستيرية التي تشير بها الطرق الالتفافية في زمن الانتفاضة والحصار. فطرح /3/ احتمالات تفسّر سلوك حكومة شارون:

1-الاحتمال الأول:

هو أن هذه الطرقات؛ تعبر عن النية في عدم إخلاء الضفة الغربية أبداً. وكل المباني هو ذر للرماد في العيون.

2-الاحتمال الثاني:

هو أنهم قرروا تشييد شبكة طرق للدولة الفلسطينية التي ستقوم في الضفة الغربية، على أن يقوم دافع الضرائب الإسرائيلي بتمويلها.

3-الاحتمال الثالث:

هو أن هيئة السلطة في إسرائيل قد تملكها الشيطان دون أن يستطيع أحد وقف مسيرة السخافة، وتصل السخافة إلى درجة الكوميديا حين تعرف أن الحكومة الصهيونية تنشئ طرقاً التفافية حول الطرق الالتفافية. وهكذا تحولت أحد الرموز الصهيونية إلى نكتة.

ولكن انتفاضة الأقصى فضحت أكاذيب الصهاينة، وبدّدت أوهامهم. فالشعب الذي غُيب من خلال الطرق الالتفافية عاود للظهور على شاشة الوعي الصهيوني.

وإذا كان قد ظهر عام /1987/(1) وهو يحمل "حجراً". فإنه يظهر هذه المرة وهو أكثر عزماً وإصراراً، ويحمل مدافع الهاون، وصواريخ الأقصى والقسام المصنوعة محلياً.. وهم لا ينوون مضايقة المستعمر وحسب، وإنما ينوون طرده. ولذا فهم يهاجمون مستوطناته؛ وطرقه الالتفافية. ويرسلون رسائل مسلحة إلى المستوطنين مفادها أن عليهم الرحيل عن أرض الفلسطينيين.

ب-حواجز التفتيش:

ومن رموز الاستيطان الأخرى التي سقطت بفعل الانتفاضة حواجز التفتيش التي أقامها المستعمر الإسرائيلي. والهدف العملي المباشر من هذه الحواجز هو الحفاظ على أمن إسرائيل -خاصة المستوطنين- ولكنه على مستوى آخر تشكل الحواجز جوهر سياسة العقاب الجماعي. فهذه الحواجز تضطر مئات الفلسطينيين للوقوف ساعات وبسبب هذه الساعات الطويلة، يخفق كثير من الفلسطينيين في الوصول إلى أعمالهم أو إلى المستشفيات.. مِمَّ يؤدي إلى حالات وفاة وإجهاض كثيرة.

والحواجز ترتبط برباط عميق بالمستوطنات وبأمنها، وبطرق الوصول إليها فعقلية مقيمي الحواجز التي تقوم على أساس الموقف الاستعماري من الفلسطينيين؛ هي ذات العقلية التي أقامت مشروع المستوطنات التي تستند إلى تصوّر خلود بؤس الفلسطينيين ودونيتهم.

هذه هي قواعد اللعبة، وقد صمدت السلطة الصهيونية طالما وافق المحكومون على التصرف وفقاً لما يُملى عليهم.

ولكن الانتفاضة غيّرت هذا: "فقد تحطمت قواعد اللعبة" وأصبحت الحواجز هي نقطة الاحتكاك الأساسية بين جيش الاحتلال والسكان الثائرين، وتحوّل الحاجز من ممثل للسيطرة إلى معقل للتمرد ويقول "بنفنستي" أيضا:

[ إن مئات الآلاف من الفلسطينيين الواقفين في الطوابير المتعرجة بين مكعبات الإسمنت. سيرفضون الامتثال للأوامر. أو الإنصات إلى التعليمات، عندئذٍ سينهار نظام الحواجز تماماً. مثل مشروع الاستيطان، لأن الأحوال قد تغيّرت فالفلسطينيون هم الذين يريدون اليوم التمرد ضد الواقع. ولا يخضعون للمفاهيم العقلانية لعلاقات القوى التي تتنبأ بفشلهم ].

جـ-خطة الغلاف:

ثم ظهرت خطة "تغليف القدس" التي اقترحها "شارون" والتي تقضي ببناء جدار طوله /11/كم في جنوب مدينة المقدس بضم حي جيلو /جنوباً والحي الجديد المنوي إقامته "هارموحا" و"بسكات زئيف" و"النبي يعقوب" شمالا/ إضافة "جعفات زئيف" و"راموت" غرباً. وذلك لفصل القدس عن قطاع بيت لحم.

وتنص الخطة أيضاً على حفر خنادق وإقامة حواجز وأبراج حراسة ونقاط مراقبة ووضع كاميرات فيديو على طول خط التماس المحاذي لمدينة القدس، واستخدام وسائل تشخيص متطورة/ كالمجسات الحرارية. وأجهزة الرؤيا الليلية. ووسائل لاسلكية.. وزيادة حجم قوات ما يسمى "حرس الحدود".

وهذه الخطة الجديدة تجعل حركة تنقل الفلسطينيين من رام الله - إلى بيت لحم- إلى القدس أمراً صعباً. ويعلق أحد الجنرالات في جيش الدفاع الإسرائيلي قائلاً:

إن تغليف القدس يجعل شارون "كمن ضرب /3/ طيور بحجر واحد”. لأنه يحقق الأهداف الثلاثة الأساسية لشارون وهي:

1- إثبات رؤيته الدفاعية عن القدس.

2- إحياء فكرة القدس الكبرى.

3- إجهاض الوجود الفلسطيني المتنامي في أبو ديس.

ويدرك الجانب الفلسطيني خطورة هذا التقسيم والتهديد غير المعلن، حيث سينتهي الأمر بأحكام إسرائيل سيطرتها على مساحة كبيرة من القدس. بالإضافة للقدس القديمة كاملة (للإسرائيليين الآن 47% - للفلسطينيين 14%). ومنح السلطة الفلسطينية عدة قرى فلسطينية صغيرة متفرقة، تفصل بينها مستوطنات إسرائيلية. ومن ثم اعتبار ذلك حلاً نهائياً لملف القدس الشائك.

د-رفض الخدمة العسكرية:

ومن أهم أسباب رفض الخدمة العسكرية، إدراك الجنود لمدى وحشية القمع الصهيوني للفلسطينيين.. فالملازم "أبشاي ساحي" قال:

[-إنه طُلب منه أن يطلق النار على أي فلسطيني يلقي الحجارة عليه ولم يكن هناك أي تحديد لهوية الفاعل سواء كان طفلاً أو امرأة أو كهلاً، ولم تكن هناك تعليمات بخصوص أي جزء من جسم المستهدف تطلق عليه النار. أي أن الحديث عن طهارة السلاح. والدفاع عن النفس هو حديث ليس له وجود.. أو لعله كان يوجه لبعض الشباب الإسرائيلي السُّذَج المثاليين ].

بيد أن اعترافات الجندي /عاموس/ هي أكثر الاعترافات شمولاً فقد قال:

"كنا نتسلى بمنع عربات الإسعاف التي تحمل المرضى والجرحى من المرور، ولقد رأيت أشخاصاً يموتون بسبب الفشل الكلوي. والأزمة القلبية، ورأيت بعض الحوامل يقضين حتفهن أثناء الولادة. كنا نستيقظ أحياناً في منتصف الليل، ونركب دبابة مع جنود آخرين وندخل في المدن والقرى الفلسطينية قبل بزوغ الفجر. وتمطر الأسر الفلسطينية النائمة في منازلها بالقذائف.

وأحياناً كنا نقوم بغارات قبل الفجر، ونندفع داخلين في منازل الفدائيين لنلقي القبض عليهم. أو لنقتلهم أمام أعين زوجاتهم وأطفالهم. وأحياناً أخرى كنت أقود "بلدوزر" إسرائيلي لأحطم منازل (وأحلام) قاطنيها، وأحياناً أخرى أجتثُّ أشجاراً استغرق نموها عدة أجيال، وكم كنت أحب إتلاف الأرض الزراعية وكنت أحياناً أطق الرصاص الحي على المتظاهرين المسالمين. لكن أكثر الأعمال التي كنت أحبها هو إطلاق النار على الأطفال الفلسطينيين الذين يتجاسرون على إلقاء الحجارة عليّ في هذه الحالة كنت أصوّب رصاصي على رؤوسهم وقلوبهم؛ ثم أتفاخر بأنني قتلت الكثيرين، وأصبت عدداً أكبر بعاهات مستديمة. فقد كنت أؤمن إيماناً جازماً بأن حياة إسرائيلي واحد تساوي حياة /ألف فلسطيني/ وأن أبدى الفلسطينيون أي شكل من أشكال المقاومة كنا نلجأ للعقاب الجماعي.

أما دعايتنا الصهيونية فهي في غاية الكفاءة، لقد أقنع الإسرائيليون العالم أننا نحارب دفاعاً عن أنفسنا ضد عدو فلسطيني لا يريد سوى أن يقذف بنا في البحر.. ولكن الأشياء ليست كما تبدو.. إن العالم لا يعرف أن الإسرائيليين هم الذين يحاولون إبادة الشعب الفلسطيني. ونحن بمقدورنا أن نفعل ذلك بسهولة ويسر بسبب دعم أصدقائنا الأمريكيين الذين يساعدوننا بغض النظر عما نقوم به ويعطوننا /5/ بليون دولار كل عام. ويزودوننا بآخر الأسلحة والطائرات. نحن لا نريد السلام. فنحن نريد المزيد والمزيد من الأرض العربية حتى تصل إمبراطوريتنا إلى منتهاها.

ولكن!.. أنا عاموس الجندي الإسرائيلي، الإرهاب لعبتي، والقتل اسمي لا أشعر بأي ندمٍ على ما فعلت لأن روحي ماتت، وأعرف أنه لا يوجد أي مجال لأن أنال "الخلاص".

إن كلمات الجندي (عاموس) الساخرة المريرة هي أصدق تعبير عن استجابة جنود الاحتياط لما يُرتكب من بشاعات.. ومما لا شك فيه أن بشاعة المهام المناطة بهم أصابت عدداً منهم بالفزع والاشمئزاز بما دفعهم إلى رفض الخدمة العسكرية وبالتالي رفض الاستمرار في هذه الأفعال الوحشية غير الإنسانية.

هـ-الهجرة والنزوح:

إن تفاقم ظاهرة النزوح يقوّض من شرعية الحركة الصهيونية ويكشف زيف الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط اليهود ارتباطاً عضوياً بما يسمى "أرض الميعاد". ولكن الأهم من هذا أن النزوح يعد ضربة في الصميم لمقدّرات المشروع الصهيوني الاستيطاني /العسكرية/ فإذا كان اليهودي المهاجر من بلده إلى فلسطين المحتلة؛ يتحول إلى مستوطن صهيوني مقاتل.. فإن الحركة العسكرية (النزوح) تؤدي إلى تحول المستوطن الصهيوني إلى مواطن يهودي في بلد آخر.

وقد كتب "آمنون روبنشتاين" في هآرتس بتاريخ 31/12/2001م يحذر من خطورة هجرة الشرائح والطبقات الفنية والقوية في المجتمع الإسرائيلي.. فهي تعني "إهدار لدماء الضعفاء، ومن لا يستطيعون الحصول على تأشيرة لأمريكا. وتركهم فريسة لمخاطر أكبر من التي نواجهها اليوم".

ويصف آمنون روبتشتاين الهجرة بأنها نوع من التطهير الطبقي فالفقراء سيضطرون للبقاء هنا. وعليه فقد تحولت أرض الميعاد تحت ضغط الانتفاضة إلى "جحيم" لا يطاق يضطر المرء إلى البقاء فيه نظراً لعدم وجود المال الكافي للهجرة.

وحالة المستوطن الإسرائيلي "عاموس ساهر" الذي يعمل كمرشد سياحي، والبالغ عمره /35/ سنة تستحق الدراسة؛ فقد قرر الرحيل هو وزوجته وابنه الصغير بعد أن يجد مشترياً لشقته.

يقول ساهر:

"لم يكن الأمر هيناً لقد استغرقتني أعوام من الانفجارات وأعمال القتل، من الأحزان والآمال من المجادلات والقلق، لكنني في النهاية انهرت. سئمنا أن نجدهم في كل مرة نفتح المذياع يتحدثون عن انفجارات، عن دماء، عن موت، عن جنائز. هذا هو الواقع صراحة ولست فخوراً بذلك. ولا أعتبر هذا شعاراً لي. ولكن من المستحيل أن تقولوا لنا عليكم أن تبقوا هنا ما دام من المستحيل أن تضمنوا لنا حياتنا. أريد أن أمنح أسرتي أقصى قدر ممكن من السعادة".

ويضيف ساهر قائلاً:

"الجميع الآن يعتقد أنه لا مجال نتقدم نحوه.. ليس هناك ما نتقدم نحوه. المشكلة هي أننا على مدى السنوات الثلاث والخمسين الماضية لم ننجح في ضمان أمننا، هذا هو سبب الرحيل والهجرة.. نحن نشعر بعدم وجود مخرج.. الحل هو الرحيل وليس تغيير السلطة.. من الصعب عليّ أن أقول هذا. ولكننا نعيش في إسرائيل كما لو كنا مسحورين.. نحن نخرج إلى الشوارع، ومن الممكن أن يحدث أي شيء، وأن ينسفنا معه ويحوّلنا إلى أشلاء. أنا لا أرى أملاً في حدوث تغيير كبير، وإحساسي يقول: ليس فقط الإحساس.. ولكنه التحليل العقلاني. إنه لا سبيل لضمان حياة الناس هنا أعلم أن هناك أماكن لا تحدث بها مثل هذه الأمور. لا توجد أماكن محصنة من الموت، ولا يوجد هناك أماكن ليس بها مجانين، ولكن يمكنك أن تصحو في الصباح وتفتح عينيك وتحتسي فنجاناً من القهوة وتخرج وتقول صباح الخير للناس؛ وأهم شيء هو أن تصل إلى موقع عملك في الموعد المحدد. أنا ببساطة أشعر بالقلق على طفلي الرضيع.. ويبدو أن مَنْ يحاولون إقناعي أن أبقى يفضلون أن أموت هنا.. على أن أعيش في مكان آخر. أما أنا شخصياً فأفضل الحياة.. ولا أخجل من قول هذا".

قضية فلسطين من قضية مركزية إلى قضية عالمية.. والعالم بأسره يعلن غضبه:

إن من أهم ثمرات الانتفاضة.. اختراقها للتعتيم الإعلامي الذي فرض على الشعب الفلسطيني وعلى جهاده ومقاومته. فوصلت الرسالة إلى كل شعوب العالم وتعالت الأصوات الغاضبة.

أ- ففي الشارع العربي: والذي قال عنه علماء السياسة الأمريكيون أنه: "أسطورة لا وجود لها". لقد خرج الآلاف من الطلبة والمحامين والفنانين وجميع المثقفين بشكل يومي ومستمر؛ ليعبّروا عن تضامنهم مع الشعب العربي الفلسطيني، فالجماهير العربية مدركة لخطورة الغزو الصهيوني الذي أسّس جيباً استيطانياً في فلسطين لا لأنها أرض الميعاد؛ وإنما لأنها تقسم العالم العربي إلى نصفين وتعزل الواحد عن الآخر، ولأنها في موقع استراتيجي متميز فهي: تطل على البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.. وتتوسط مفارق الطرق بين آسيا وإفريقية وأوروبة وهي بوابة مصر الشرقية.

ب-وفي العالم الغربي: كان من شأن استمرار المقاومة الفلسطينية أن يجعل الصمت أمراً مستحيلاً على الكثيرين في أنحاء العالم، إذ اندلعت مظاهرات في كل أنحاء العالم اشترك فيها الآلاف من الغربيين الذين لم يسمح ضميرهم بالاشتراك في مؤامرة الصمت.

ومن أبرز الغاضبين الكاتب الكولومبي: "جبرييل جارثيا ماركيز" الحائز على جائزة نوبل في الأدب والذي كتب يقول:

"لقد أسندت نظرية المجال الحيوي الصهيونية إلى أنّ اليهود شعبٌ بلا أرض وأن فلسطين أرضٌ بلا شعب.. وهكذا قامت الدولة الإسرائيلية غير الشرعية سنة /1948/.. فلما تبيّن أن هناك شعباً في فلسطين يسكن أرضه، كان من الضروري حتى لا تكون النظرية مخطئة إبادة الشعب الفلسطيني وهو ما يتم بصورة منهجية منذ أكثر من /50/ خمسين عاماً.

هناك بلا شك أصوات كثيرة على امتداد العالم. تريد أن تعرب عن احتجاجها ضد هذه المجازر المستمرة حتى الآن، لولا الخوف من اتهامها بمعاداة السامية أو إعاقة الوفاق الدولي، أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنهم هكذا يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص لا يجب التصدي له سوى بالاحتقار. لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب العربي الفلسطيني، فإلى متى نظل بلا ألسنة؟ أنني أعلن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يومياً المدرسة الصهيونية الحديثة، وأطالب بترشيح "آراييل شارون" لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذا قلت أيضاً أنني أخجل بارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة؛ بالرغم من إنكار القوى العظمى، أو المثقفين الجبناء أو وسائل الإعلام لوجوده".

أما الكاتب البرتغالي: "سارا ماجو":

وهو أيضاً حائز على جائزة نوبل في الأدب. فقد صرّح أن رام الله وجنين التي رآهما تحت الحصار تذكّره بمعسكر "أوشفيتس النازي" فاتهمه البعض بأنه ضحية الدعاية "الفلسطينية الرخيصة"!.. لكن الكاتب (سارا ماجو) لم يهتز كغيره أمام تهمة معاداة السامية، بل جاء رده كاسحاً ساخراً حين قال:

"أفضل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة، على أن أكون عميلاً للدعاية الإسرائيلية الغالية" ثم فصّل رأيه فيما رآه قائلاً:

[ لم أكن أعرف أنه من الطبيعي أن يبحث طفلٌ فلسطيني دمروا بيته، عن كتبه ولعبه وسط الأنقاض. لم أكن أعرف أنه من الطبيعي تماماً أن تزيّن الرصاصات الإسرائيلية جدران المنازل الفلسطينية، ولا كنت أعرف أنه يلزم لحماية أقلية من الناس أن تُصادر المزارع، وأن تُدمَّر المحاصيل.. ولا أن توفير الأمن لهذه الأقلية يقتضي احتجاز المئات عند نقاط التفتيش وحواجز الطرق قبل السماح لهم بالعودة إلى منازلهم منهكين، هذا إن لم يُقتلوا. فهل هذه هي الحضارة؟ هل يمكن أن نسمي هذه الأشياء ديموقراطية؟].

ووقّع عدد كبير من المفكرين والمثقفين اليهود الفرنسيين على بيان صيغ بلهجة بالغة القوة، تعكس مشاعر الغضب والاحتجاج على الوحشية الإسرائيلية، واستنكروا صمت الحكام الغربيين أمام الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال في الضفة الغربية وقال البيان:

[ هؤلاء الذين يبررون حق عودة اليهود إلى إسرائيل تحت دعوى (حق دم) يعود لآلاف السنين، يرفضون حق العودة (حق الأرض) للفلسطينيين، وأصحاب المقامات الرفيعة في الأمم المتحدة تصالحوا وارتضوا الإذلال المفروض على السلطة الفلسطينية وهؤلاء الذين يدعون إدارة العدالة الكونية يديرون رؤوسهم عن أعمال القتل خارج نطاق القانون، وإعدام السجناء دون وجه حق وجرائم الحرب التي يرتكبها المجرم أراييل شارون.

الإسرائيليون لديهم دولة ذات سيادة وجيش وتراب وطني. أما الفلسطينيون فهم محبوسون كالبهائم في معسكرات منذ نصف قرن معرضين للوحشية والإذلال. ومُحاصرين على أرض من الأحزان في حجم مقاطعة فرنسية صغيرة.. إن الضفة الغربية مفخخة بالطرق الإستراتيجية، ومثقوبة بنحو /700/ نقطة تفتيش ومحاطة بالمستوطنات.

لا يمكن المساواة بين المحتل، وبين من تُحتل أرضه. الانسحاب غير المشروط للجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة. وتفكيك المستوطنات هو مجرد تطبيق لحق معترف به شكلياً من الأمم المتحدة في القرارين (242 و338) وحتى إقرار مجلس الأمن /1042/ ومع ذلك بطلب "بوش" ضمانات من الضحايا. و"شارون" يعتقل ممثليهم -أي ممثلين الشعب الفلسطيني - وينسف بيوتهم، ويقتل أطفالهم بينما تمنع قواته سيارات الإسعاف من الوصول للجرحى].

وللعلم فإن الموقعين على البيان جميعهم يهود، وليس يهود عاديين وإنما هم من أبرز المثقفين اليهود في فرنسا(1).

كما قامت مجموعة من الكتاب البريطانيين بتوقيع بيان يدينون فيه الهجوم على الشعب الفلسطيني ومؤسساته، ونسيج مجتمعه.. وطالبوا بالانسحاب الفوري للجيش الإسرائيلي وكان من بينهم الكاتب المسرحي "هارولد بنتر" وقد اضطرت حكومات ألمانيا وفرنسا وإنكلترا إلى وقف تصدير السلاح لإسرائيل، وظهر تغيّر ملحوظ في لهجة الإعلام الغربي المعروف بتحيزه الواضح للدولة الصهيونية.

وبدأت بعض الأصوات اليهودية المعتدلة في الاعتراض على المجازر التي ترتكبها الدولة الصهيونية. فقد كتب "يوري ديفيس" وهو مواطن إسرائيلي يقيم خارج إسرائيل يُدين ما سماه بـ -جرائم الحرب- التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية -ويرفض باعتباره إسرائيلياً ويهودياً أن تُرتكب هذه الجرائم باسمه.

كما تظاهر عدد من اليهود الأرثوذكس من جماعة ناطوري كارتا - أي نواطير المدينة - المعادية للصهيونية والرافضة لها. وهتفوا ضد الصهيونية، ورغم أن المظاهرة التي قاموا بها كانت سلمية؛ فقد اعتدت الشرطة الإسرائيلية عليهم بالضرب.

الانتفاضة هي حرب التحرير الفلسطينية والصهيونية هي الإرهاب بذاته:

لقد كان اسم عز الدين القسام محفوراً في الذاكرة الفلسطينية والإسلامية رمزاً للمقاومة والاستشهاد والتضحية بالنفس من أجل تحرير الأرض. وها هو ذا يتحول إلى حقيقة مادية ملموسة. وهكذا حول المنتفضون الحلم العربي إلى حقيقة بصاروخ "قسام 2" محلي الصنع والذي يصل إلى العمق الإسرائيلي، ويحدث تغييراً نوعياً في المواجهة بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية والذي وصفه "جدعون سامت" بأنه ليس نجاحاً للانتفاضة الثانية حسب، بل هو أيضاً إخفاق محتم ومفتح للعيون لجهود الردع الإسرائيلية(1) كما قال"تالي شاحك"(2):

"يتغذى الخوف من التقديرات الأمنية والأنباء التي توقف شعر الرأس بشأن الصواريخ الموجهة في هذه اللحظات نحو مستوطنات خط التماس أو مراكز المدن، والعمليات المعقدة والمواد الناسفة التي لم يشهد لها مثيل".

وهكذا تُفعّل الهوية، وهكذا تُفعّل الذاكرة لتحول المستوطنات إلى أطلال بدلاً من البكاء التقليدي عليها.

ثم جاءت المفاجأة الثانية وهي تفجير دبابة "مركبا 3" الإسرائيلية وهي من أحدث أنواع الدبابات وأكثرها تحصيناً، كان الانفجار من القوة بحيث انقلبت الدبابة على جانبها، ويبدو أن المنتفضين الذين خططوا للعملية بدقة واستخدموا /100/ مائة كغ من المتفجرات. وتُعد هذه العملية تصعيداً جديداً لم يتوقعه الإسرائيليون الذين كانوا يتحدثون "جيش الدفاع الإسرائيلي الذي لا يُقهر" كما يقول "مكيفا الدار"(3):

"إن الردع الذي حققه المخرب الوحيد مع (بندقية كاربين الخردة)(4)، تفوق ألف مرة الردع الذي حققه الجيش الإسرائيلي في عملية استعراضية في مخيم بلاطة، أو في حصار جنين مع كل دباباتها ومروحياتها، فبندقية واحدة ومخرب واحد؛ قتلا عشر رجال سبعة جنود و/3/ مدنيين".

ثم جاءت المفاجأة الأهم. وهي استشهاد العربية الفلسطينية "وفاء إدريس" وهي أول استشهادية لامرأة في الأرض المحتلة. ومن ثم "آيات" وغيرها وغيرها(1).

هذه هي السنة الثالثة من انتفاضة العرب والمسلمين؛ انتفاضة الأقصى والاستقلال. إنها حرب التحرير الذي يتحمل عبئها (الشعب الذي لا يلين) إنه الشعب العربي الفلسطيني البطل. إنها حرب تحرير الأقصى والذي يرصد الإعلام الغربي أحداثها بتجرد وبرود شديدين وبدون استخلاص أي نتائج. ودون محاولة لتخطي البيانات العسكرية التي يدلي بها المتحدثون الرسميون الصهاينة، ثم تُطيرها وكالات الأنباء بما يسمى "الصحافة الغربية" ولذا فالانطباع العام الذي يصل هو أن الفلسطينيين شعب يقاتل لأنه من هواة القتل الذي لا يرجى من ورائه فائدة، ويضحي بنفسه لأنه يستعذب الألم بل هو شعبٌ يذهب ممثلوه يومياً يحملون أواني الدم الغالي ليسكبوه بشكل آلي منتظم عند آلهة الانتقام الصهيونية. بل هو شعبٌ دخل في طريق العذاب المسدود.. مما يجعل الجهاد والتضحية أموراً لا طائل من ورائها. وقد استخدم الصهاينة والإعلام الغربي لفظ "الإرهاب" للإشارة لأعمال "المقاومة" ولفظ (الانتحار) للإشارة إلى عمليات "الاستشهاد" وتبنت وسائل الإعلام الغربي هذين المصطلحين، وفي هذا الإطار لم تعد القضية هي تحرير الأرض السليبة؛ أو استعادة الحقوق الضائعة؛ أو التصدي للعدو وهزيمته، أو دعم الانتفاضة سياسياً ومالياً وعسكرياً؛ بدلاً من هذا كله تصبح القضية: رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني؛ و(إيقاف العنف). وفي رواية أخرى (الإرهاب) ووقف العمليات الانتحارية. بل والعودة إلى مائدة المفاوضات.

لقد حطمت الانتفاضة أسطورة الصهاينة وأعادت للمستوطنين شيئاً من رشدهم وعقلهم عن طريق تقويض أسطورتهم الغاشية الزائفة.

يقول: "زئيف شيف" أهم معلق عسكري في إسرائيل في وضوح كامل(2):

[ إن العمليات الفدائية الفلسطينية تنتمي إلى حرب العصابات وليس للإرهاب ].

أما "يوئيل ماركوس" فيشير في مقاله إلى(1):

[  إن فشل الإسرائيليين ليس فريداً، ففي القرن العشرين لم تنجح دولة في العالم في القضاء على الإرهاب القومي ].

ومن الواضح أن الكاتب يخاف من الحديث عن الانتفاضة باعتبارها مقاومة مشروعة؛ ولذا فإنه يتخفّى وراء عبارة "الإرهاب القومي" إلا أنه في واقع الأمر (المقاومة الشعبية) أو (حرب التحرير).

إن الصهيونية هي الإرهاب القومي بذاته. والتفكير الصهيوني تفكير غربي استعماري عنصري حتى العظم بل حتى النخاع ولذا فهو يتسم بالتجريد والتعميم.

إن ما يسمى الإرهاب ليس إرهاباً؛ بل هو حرب تحرير. لأن الفلسطينيين ليسوا مجموعة متناثرة من المحاربين، بل هم شعب بأسره له تاريخه ومؤسساته الحضارية. وهذا ما يبينه (مايكل بن مائير)(2) إذ يقول:

[ إن الانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب الفلسطيني، فالتاريخ يعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر وان حرب التحرير التي يخوضها شعبٌ مضطهد ستنجح حتماً.

والإسرائيليون كقوة احتلال؛ يقتلون الأطفال؛ ويقومون بتنفيذ حكم الإعدام في أشخاص مطلوبين دون محاكمة. لقد أقمنا الحواجز التي حوّلت حياة الملايين إلى كابوس.. إن "علماً أسوداً" يرفرف فوق أفعالنا إن نظام الاحتلال يقوّض المبادئ الأخلاقية، ويمنع التوصل إلى سلام وهكذا فهو يهدّد وجود إسرائيل ].

إن حرب التحرير الفلسطينية تنبع من أنبل الدوافع الإنسانية. وهي إقامة العدل في الأرض، وتحرير الوطن المغتصب، والقضاء على الاحتلال، وتنفيذ مقررات الشرعية الدولية فمصدرها هو الأمل والمقدرة على التضحية بالذات. وليس اليأس والرغبة في تفجير هذا الجسد. إنها تعبير عن امتلاء إنساني وأخلاقي حقيقي. ولولا هذا لما كتب لها الاستمرار، ولما أتى مئات المتظاهرين والاستشهاديين المفعمين بالأمل، والرغبة في تحرير الأرض. والخلاص من الاضطهاد الصهيوني.

إنها حربٌ أعادت إلى الوجدان العربي والإسلامي إحساسه بمقدرته على تغيير الواقع وعدم الاستسلام للظلم. ومن هنا ثورة الشارع العربي على الظلم(1) وإرساله رسائل للعالم بأسره بأنه لا يمكن السكوت على ما يحدث في فلسطين.

هي ثورة بدّدت الوهم الغربي بأن الشارع العربي لا وجود له. وأن الأجيال العربية الجديدة التي نمت وترعرعت في إطار ما يسمى "ثقافة السلام" والتي كان من المقدّر لها أن تتمركز حول نفسها. وتنسى فلسطين والفلسطينيين لتحقق لنفسها المتعة من خلال معدلات متصاعدة من الاستهلاك؛ هذه الأجيال بدأت تبعث بالرسائل الواضحة بأن البطش الصهيوني الذي يتم بأسلحة أمريكية ودعم سياسي واقتصادي غربي لن يُقابل بسلبية بلهاء. وإنما سنتصدى له وسيدفع الجزار الثمن!.. انتهى.

 

(1) - ذكرها جغرافيو العرب ومؤرخوهم: فِلَسْطين. بالكسر ثم الفتح وسكون السين وطاء مهملة وآخره نون.

(2) المصدر: كتاب تاريخ فلسطين الحديث للشهيد الفلسطيني عبد الوهاب الكيالي الذي استشهد في 7/12/1981. قبل أن يحقق أمانيه. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية. والإنكليزية والإيرانية. وأعيد طبعه عدة مرات. وحتى عام /1999/ كانت الطبعة الحادية عشرة.

(1) - أقام العدو الصهيوني بعض المزارع والتجمعات الصغيرة. كما شيّد مراكز للأبحاث والتجارب العلمية الحربية (الذرية) في سدة بوقر في النقب.

(2) - إن إسماعيل هو الذي ربط بين بلاده فلسطين؛ وبين النبي العربي والمسلمين بصلة خالدة، إذ قام مع أبيه ببناء الكعبة المكرمة الشريفة.

(3) - الكنعانيون والفينيقيون شعبٌ واحد نسباً ولغة وديناً وحضارة. انقسم إلى قسمين: سكن الأول فلسطين. وسكن الثاني الساحل الشامي من مصب نهر العاصي إلى جنوبي الكرمل.

(1) - ذكر اسم إبراهيمu في /27/ سورة من القرآن الكريم.

(1) -كان الأنباط يتفاهمون بلغة عربية. إلا أنهم كانوا يكتبون بالآرامية. وتُعتبر حضارتهم عربية في أساسها.

(1) سورة الإسراء الآية:1

(1) المتحدنقة: المتطاولة المضطربة.

(2) هآرتس تاريخ 1/2/2002/م.

(1) - هآرتس تاريخ 2/9/2001/م.

(2) - معاريف تاريخ 3/12/2001/م.

(3) - يديعوت أحرونوت 13/1/2002/م.

(1) ثورة الحجارة /1987/ الانتفاضة الأولى.

(1) -نُشر في صحيفة /Le-monde/ لوموند الفرنسية في 7/4/2002م.

(1) - هآرتس 30/1/2002م.

(2) - معاريف 30/1/2002م.

(3) - هآرتس 14/3/2002م.

(4) -وهذه البندقية غير أوتوماتيكية بندقية قديمة مثبتة بالمسامير وهي خردة بل هي ليست بندقية بقدر ما هي مكنسة.

(1) - في نهاية البحث. ملحق لنضال المرأة العربية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة.

(2) - هآرتس 4/3/2002م.

(1) - هآرتس 13/11/2001م.

(2) - هآرتس 3/3/2002م.

(1) - إن إحدى المظاهرات في المغرب اشترك فيها مليون شخص.. وأن مظاهرة قامت في المملكة العربية السعودية لأول مرة (قامت بها نساء). ومظاهرة غاضية أيضاً قامت في عُمان.

 

ملحق:

 

نضال المرأة الفلسطينية

داخل وخارج الأرض المحتلة

إن المرأة العربية الفلسطينية، ونتيجة لظروف الكفاح التي عاشتها وتعيشها منذ الاحتلال وحتى الآن سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي تعتبر رائدةً للمرأة العربية على طريق التحرير. فلقد اشتركت في كل أنشطة منظمة التحرير السياسية والعسكرية. ولقد أثبتت أن عملها النضالي في حركة التحرير الوطني يضمن لها تغيير المفاهيم البالية في عقلية المجتمع. أي أنها تلتقي مع الرجل في تحرير الوطن والمجتمع في آن واحد.

فالواقع العربي الراهن، يحمل في طياته مزيجاً من الألم. مزيجاً من قهر الإنسان في هويته الوطنية والقومية، في سلامة أرضه، في سلامة شعبه في استقلال بلاده، في وحدة أمته، في كرامته كفرد، في حريته لقول، في حريته للفعل؛ للعيش ويشترك في هذا الرجل والمرأة معاً غير أن المرأة العربية الفلسطينية تواجه بالإضافة لذلك تحديات خاصة بها لها في أعماق التاريخ جذوره؛ هذه التحديات هي التي تدفعنا للاهتمام بدور المرأة الفلسطينية وبالدور الذي لعبته على الساحة العربية تحريراً وتنمية ووحدة.

لقد أيقظت الثورة الفلسطينية طاقاتها. فأثبتت نفسها سياسياً واجتماعياً في الظروف الثورية. ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يمكن للمرأة العربية أن تلعبه في مواجهة الخطر الصهيوني المتصاعد، لمواجهة المخططات الاستعمارية الصهيونية من خلال الاتحادات واللقاءات الجماهيرية. والندوات وإلقاء المحاضرات التثقيفية الموجهة نحو توضيح دور المرأة الفلسطينية البطلة داخل وخارج الأراضي المحتلة، للعمل الجاد على دعم المرأة الفلسطينية كأخت لهن في العروبة والنضال والعمل على مختلف المستويات للحد من الخرق الصارخ لمبادئ حقوق الإنسان الذي تمارسه سلطات الكيان الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة من تعذيب وتشنيع وبقر لبطون الحوامل. وتعذيب فاضح لهن في السجون الإسرائيلية والمعتقلات.

لقد كان اسم الخنساء محفوراً في الذاكرة العربية والإسلامية رمزاً لحب الوطن والاستشهاد. حين تلقت خبر استشهاد أبناءها الأربعة وهاهو ذا يتحول إلى حقيقة ملموسة؛ لكنه أنبل وأسمى وأرفع إنها التضحية بالجسد وليس الرغبة في تفجير هذا الجسد.

فاستشهاد "وفاء إدريس" ومن ثم "آيات" ومن ثم "؟" الاستشهادية الثالثة والتي كتبت وصيتها قبل استشهادها ألا يُذكر اسمها في وسائل الإعلام، لهو تعبير عن امتلاء إنساني وأخلاقي كبير، فهو ينبع من أنبل الدوافع الإنسانية قاطبة، ألا وهو إقامة العدل في الأرض والقضاء على الاحتلال، وتحرير الأرض من المغتصب الآثم.