مقالات

حديثة

شهادة الزور والهوية الكاذبة

المحامي :  مازن الحنبلي

e-mail: mazen@damascusbar.org

سنة النشر :08 / 2006

 

 

النصوص القانونية :

تناولت المواد من /397 وحتى 401/ من قانون العقوبات العام النصوص التي تحكم قواعد هذا الموضوع، وهذه النصوص هي التالية :

v           المادة 397 :

« الشاهد الذي يبدي عذراً كاذباً يعاقب بالحبس ثلاثة أشهر على الأكثر، فضلاً عن الغرامة التي يقضى بها عليه بسبب تخلفه عن الحضور ».

v           المادة 398 :

«1- من شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري، فجزم بالباطل أو أنكر الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.

2 - وإذا أديت شهادة الزور أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.

3 - إذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة.

4 - وإذا كان المجرم قد استمع دون أن يحلف اليمين خفضت نصف العقوبة ».

v           المادة 399 :

« يعفى من العقوبة :

1 - الشاهد الذي أدى الشهادة أثناء تحقيق جزائي إذا رجع عن الإفادة الكاذبة قبل أن يختم التحقيق ويقدم بحقه إخبار.

2 - الشاهد الذي شهد في أية محاكمة إذا رجع عن قوله قبل أي حكم في أساس الدعوى ولو غير مبرم ».

v           المادة 400 :

«1- كذلك يعفى من العقوبة :

آ -  الشاهد الذي يتعرض حتماً إذا قال الحقيقة لخطر جسيم له مساس بالحرية أو الشرف أو يعرض لهذا الخطر زوجه ولو طالقاً أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوته أو أصهاره من الدرجات نفسها.

ب- الشخص الذي أفضى أمام القاضي باسمه وكنيته وصفته ولم يكن من الواجب استماعه كشاهد أو كان من الواجب أن ينبّه إلى أن له أن يمتنع عن أداء الشهادة إذا شاء.

2 -  أما إذا عرّضت شهادة الزور شخصاً آخر لملاحقة قانونية أو لحكم، خفضت العقوبة من النصف إلى الثلثين ».

v           المادة 401 :

« يخفض نص العقوبة عن الشخص الذي أديت شهادة الزور بتحريض منه إذا كان الشاهد يعرّضه حتماً لو قال الحقيقة أو يعرّض أحد أقربائه لخطر جسيم كالذي أوضحته الفقرة الأولى من المادة السابقة ».

تعريف شهادة الزور :

يمكن استخلاص تعريف شهادة الزور من خلال النصوص القانونية، بأنها تكليف رسمي لشخص كشاهد يدعى إلى القضاء للإدلاء بأقواله حول واقعة معينة مطروحة أمام القضاء، فيقرر عمداً إلى الإدلاء بما يخالف الحقيقة، بقصد تضليل القضاء.

هذا مع العلم أن هذه النصوص لم تعرّف شهادة الزور.

أركان هذه الجريمة :

جريمة شهادة الزور تشترك مع جرائم التزوير في السندات والأوراق ببعض الأركان ومنها تغيير الحقيقة، ووجود أو احتمال الضرر، والقصد الجرمي. إلا أن الاختلاف واضح في الوسيلة التي يتم بها التزوير أو الطرق المستعملة لذلك. فالتزوير في السندات والأوراق يقع على محررات وفق طرق حددها القانون، في حين أن شهادة الزور تتم بما يدليه الشاهد من أقوال في مجلس القضاء وفق أسلوب معين.

وأركان هذا الجرم هي :

أولاً- وجود شهادة واقعة ومؤداة أمام القضاء وفي مجلسه :

وبذلك يعتبر الكذب واقعاً أمام القضاء من خلال هذه الشهادة، وبالتالي فيعتبر البعض أن شهادة الزور من الجرائم التي تمس الدين ولا يجوز العقاب فيها ما لم يسبق الشهادة حلف اليمين من قبل الشاهد، والبعض الآخر يعتبرها من الجرائم التي تخل بسير الإدارة القضائية، فيعتبر عندها سبق الشهادة بيمين يوثقها ما هو إلا ظرفاً مشدداً للعقاب في هذه الجريمة.

والمشرع السوري أخذ بالرأي الثاني معتبراً شهادة الزور من الجرائم التي تمس الإدارة القضائية أو المخلة بالإدارة القضائية.

كما يبدو أن المشرع السوري فرّق بين شهادتين هما الموثقة بيمين والمدلاة بدون يمين، فاعتبر عدم حلف الشاهد اليمين لأسباب معينة سبباً مخففاً للعقوبة.

هذا وقد أجازت المادة /81/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، الاستماع لإفادة بعض الأشخاص الذين لم يبلغوا من العمر الخامسة عشر عاماً بدون أن يحلفوا اليمين المنصوص عليها في المادة /77/ من هذا القانون.

فتنص المادة المذكورة على ما يلي :

« يستمع على سبيل المعلومات لإفادة الأشخاص الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة من عمرهم بدون أن يحلفوا اليمين المنصوص عليها في المادة /77/ ».

ويبدو أن نص المادة سالف الذكر لم يطلق اسم الشهادة على ما يدلي به الأشخاص الذين لا يتجاوز عمرهم الخامسة عشرة سنة، وإنما أطلق عليها المشرع صفة (الإفادة).

هذا وإن الاستماع لأقوال هؤلاء بدون يمين على سبيل الإفادة خطأ، لأن القضاء قد يتأثر بأقوال هؤلاء في حكمه بما يقع في ذهن القاضي من الأقوال غير المؤيدة بيمين، قد تغير مجرى اعتقاده وتؤثر على حكمه.

والمشرع السوري أخذ موقفاً وسطاً من هذا الموضوع فجعل عقوبة لأمثال هؤلاء الأشخاص لكنها مخففة إلى النصف وفق ما جرت عليه أحكام الفقرة الثانية من المادة /398/ من قانون العقوبات.

والقانون لم يبين صيغة اليمين بشكل واضح وإنما ذكرت المادة /81/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية بالإحالة إلى نص المادة /77/ منه منوهة إلى اليمين المنصوص عليها بهذه المادة وهي :

« يتثبت قاضي التحقيق من هوية الشاهد، ثم يسأله عن اسمه وشهرته وعمره ومهنته وموطنه وهل هو متزوج أو في خدمة أحد الفريقين أو من ذوي قرباه، وعن درجة القرابة، ويحلفه أن يشهد بواقع الحال بدون زيادة أو نقصان، ويدون جميع ذلك في المحضر ».

من ذلك يتبين أن الصيغة هي أن يبتدئ الشاهد وفق ما يستنتج وجرى التعامل به، أن يقسم بأن يقول الحقيقة دون زيادة أو نقصان وفق الصيغة التالية:

« أقسم بالله العظيم أن أقول الحقيقة دون زيادة أو نقصان ».

أما المكان الذي يتوجب أن توجه الشهادة فيه حسب ما ورد بيانه بنص المادة /398/ فهو أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري، أو أمام  تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية.

وهذا السرد الذي جاء به المشرع ليس مقتصراً على هذه الأماكن وإن كانت عبارة (سلطة قضائية) تفي بالغرض وهي تعني بشكل مباشر الشهادة المؤداة في مجلس القضاء بكافة أنواعه عسكرياً أم إدارياً أم مدنياً.([1])

ويخرج عن نطاق مضمون الشهادة أقوال المتهم إذ لا يعاقب بعقوبة شاهد الزور إذا ما أنكر الحقيقة وأعطى أقوالاً مخالفة وباطلة، لأنه لا يمكن اعتباره شاهداً في دعوى هو طرف ومتهم بها، والشهادة حسب ما هو متعارف عليه هي المؤداة من شخص لا مصلحة له في الدعوى المطلوب بها هذه الشهادة، هذا فضلاً عن عدم جواز تحليف المتهم اليمين المقررة للشهادة، فتؤخذ أقواله بدون أي يمين، وقد سبق بيّنا أن من حق المتهم أو المدعى عليه اللجوء إلى استعمال كافة وسائل الدفاع المتاحة إمامه بشرط إلا تمس مركزاً قانونياً للغير أو تضر به شخصياً.

ثانياً - تغيير الحقيقة في الشهادة :

تقوم هذه الحالة بجعل واقعة مزورة في صورة واقعة صحيحة كحالة التزوير المعنوي، ومخالفة الحقيقة يعود لتقدير القاضي الذي يستخلصه من مجموع أقوال الشهود وكافة الظروف المحيطة بالدعوى.

وتغيير الحقيقة عينته المادة /398/ من قانون العقوبات بشكل عام وهو يحصل بإحدى الأمور التالية :

-            الجزم بالباطل.

-            إنكار الحق.

-            كتم بعض ما يعرفه الشاهد عن وقائع القضية.

-            كتم كل ما يعرفه الشاهد عن وقائع القضية.

هذا ومن المسلم به أنه لا يشترط للحكم على الشهادة بأنها زوراً أن تكون كاذبة كلها من أولها إلى آخرها، بل يتوجب أن يتعمد الشاهد تغيير الحقيقة في بعض أمور الشهادة تغييراً يقصد منه المحاباة المعتبرة في نظر القانون.

ويستنتج من ذلك أن القانون لا يعاقب على مجرد الواقعة الكاذبة ودرجة أهميتها بقدر ما تؤثر الشهادة الزور في مركز المتهم أو الخصم بالدعوى، فكلما كان لها تأثير على مركزه القانوني في الدعوى وكانت مخالفة للواقع والحقيقة اعتبرت الشهادة زوراً.

فإذا كان كذب الشاهد أثناء شهادته في واقعة أو أمر ليس له تأثير على موضوع الدعوى أو مركز أحد الخصوم فلا تفيد ولا تضر أحداً منهم فلا عقاب على شاهد الزور.

والشهادة المعتبرة في تحمّل الشاهد مسؤوليتها هي التي تؤثر في قناعة القاضي لصدورها عن الشاهد باعتقاد صحتها ويقينها وبدون أي جدل أو تدقيق فيها.

بخلاف ما إذا كان الشاهد يفيد في شهادته بأنها كانت نقلاً عن أحد ، أي لمجرد التسامع، فهي وفق القانون شهادة تسامعية ليست لها قوة الشهادة اليقينية بمعناها الحقيقي، وإن كان للشهادة التسامعية في بعض الحالات مرتبة تقارب الشهادة اليقينية.

أما إبداء الشاهد لرأيه أو استنتاجه أثناء الإدلاء بشهادته، فليس من مهامه ولا اختصاصه هذا الموضوع الذي لا يؤثر على مجرى الدعوى وسلوك القاضي عند الحكم، ولذلك فمهما ورد من أفكار ومغالطات وإنكار وتزوير بهذه الآراء أو الاستنتاجات لا اعتبار لها ولا عقاب عليها، لأنها لا تدخل في عداد شهادة الزور.

طرق تغيير الحقيقة :

أشرنا إلى أن نص المادة /398/ عقوبات أشار بشكل عام إلى هذه الطرق وهي الجزم بالباطل أو إنكار الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه الشاهد من وقائع القضية.

ويتوجب مثلاً في حال إنكار إحدى الحقائق من قبل الشاهد في شهادته إثبات علمه فعلاً بهذه الحقائق، فإذا كان لا يعلم فلا تعد شهادته زوراً وهو ما يسمى بالعلم الشخصي للشاهد، فلو أنكر الشاهد واقعة ضرب المجني عليه من قبل المتهم مع اعتقاده بصحة أقواله، فإن ثبوت واقعة الضرب بشهادة شهود آخرين لا يعني أن أقوال الشاهد تدخل في عداد شهادة الزور.

أما كتم بعض ما يعرفه فيكون بإسقاط شهادته أموراً جوهرية ذات شأن في مسار الدعوى مع علمه بأن سكوته من شأنه أن يؤثر في مراكز أحد الأطراف في الدعوى تأثيراً من شأنه جلب المنفعة أو الضرر، ففي هذه الحالات العقاب واجب على الشاهد، وأما إذا أسقط من شهادته أشياء لا أهمية لها في الدعوى ولا تأثير لها في مراكز الخصوم فلا عقاب على فعله، وهذه الحالة برأينا مسألة تقديرية تعود إلى القاضي الناظر بدعوى شهادة الزور الذي يرى فيما إذا كانت الوقائع المسقطة من شهادة الشاهد ذات تأثير أو لا تأثير لها على مركز أحد الخصوم بالدعوى.

ويثور التساؤل فيما إذا امتنع الشاهد بدون مبرر عن أداء الشهادة أو امتنع عن الإجابة عن بعض الأسئلة الموجهة إليه...

إن امتناع الشاهد بالأساس عن أداء الشهادة بدون أي مبرر قانوني لا يمكن أخذه على أنه من قبيل شهادة الزور، وإن كان له توصيفاً آخر، لأن الغاية من الشهادة وفق تعريفها بأنها إدلاء الشاهد بأقوال أمام القضاء، والركن المادي شرطه قيام الفاعل أو الشاهد بالبدء في أقواله لكي يستطيع القضاء معرفة فيما إذا كانت صحيحة أم زوراً، أما السكوت فهو لا يعتبر شهادة زور لعدم البدء أصلاً بالركن المادي لهذه الجريمة وهو بيان الكلام في مجلس القضاء، ولا يمكن كذلك اعتبار سكوت الشاهد عن الإدلاء بشهادته شروعاً في هذه الجريمة، لعدم تصور الشروع فيها لأن الجرم إما أن يتم وإما أن ينفى أصلاً.

ولكن الأمر مختلف فيما لو امتنع الشاهد أو سكت عن الإجابة على بعض الأسئلة الأخرى فهو يدخل في صورة كتم ما يعرفه جزئياً عن وقائع القضية، وهذه الصورة منصوص عليها صراحة بأحكام المادة /398/ من قانون العقوبات.

أخيراً قد يكون هناك تناقض وتعارض في أقوال الشاهد فهو قد يكون راجعاً إلى ضعف ذاكرة الشاهد أو عدم مقدرته على التعبير بدقة عن وقائع الشهادة، وهو يستنتج غالباً من فطنة وذكاء القاضي المستمع للشهادة في بيان هذا الأمر، وله عندئذ الحق في إسقاط ما يمكنه إسقاطه من شهادة الشاهد والأخذ ببعضها دون البعض الآخر. وإن كان هذا الأمر على ما نعتقد قد يبدو سهلاً على القاضي المستمع للشهادة ولكنه يستحيل للقاضي الناظر بدعوى شهادة الزور لأنه حقيقة لم يكن مستمعاً إلى ذاك الشاهد الذي يبدو عليه الضعف الحقيقي في ذاكرته أو سوء تعبيره غير المقصود، والرأي لدينا كما هو واقع أنه من حق القاضي الناظر بدعوى شهادة الزور أن يستأنس ببقية الأوراق الأخرى الموجودة بالملف الجاري به الشهادة ومقارنته مع الحكم ومن ثم بيان مدى تأثير هذه الشهادة على الحكم.

ويختلف الأمر فيما لو كان التناقض بأقوال الشاهد يعود إلى قصده تضليل القضاء وإخفاء الحقيقة ليتمكن من التأثير بأقواله على مراكز أحد الخصوم بالدعوى.

ثالثاً - وقوع الضرر :

أشرنا إلى أن الضرر يقصد به تأثير شهادة الزور على مراكز الخصوم بالدعوى، وهذا التأثير لابد له من وقوع أو احتمال وقوع الضرر.

ويبدو من استعراض نصوص المواد المتعلقة بشهادة الزور أن المشرع تدرج في مقدار العقوبة بحسب الجهة التي يشهد أمامها من شهد زوراً، أو حسب ما تؤدي إليه شهادة الزور من ضرر بأحد الخصوم، فهو يعاقب بعقوبة جنحوية من شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري في الفقرة الأولى من المادة /398/ إذ يفترض فيما يبدو أن الضرر بهذه الحالة واقع لمجرد الجزم بالباطل أو إنكار الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه الشاهد من وقائع القضية التي يسأل عنها.

ثم يجعل المشرع العقوبة جنائية الوصف في الفقرة الثانية إذا ما أديت شهادة الزور أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية، فيجعل العقوبة الأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر، وهذه الفقرة حسب ما يبدو لنا أنها تتعلق بالشاهد الذي يشهد زوراً في دعوى جنائية الوصف، لأمرين :

-      الأول ورود عبارة تحقيق جنائي، واختصاص قاضي التحقيق يكون في قضايا الجناية بشكل خاص وإن كان له أحياناً النظر في دعاوى الجنح غير البسيطة التي تستلزم جهداً في الكشف عن الجريمة والفاعل.

-            والثاني ما أورده من عبارة - محاكمة جنائية - أي شهادة الشاهد في دعوى تعتبر جناية.

وبذلك فإن الضرر هنا موجود افتراضاً من المشرع.

وأخيراً يوضح المشرع أعلى درجات الضرر الواقعة وهي أن تفضي الشهادة الكاذبة إلى حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة، فترفع عقوبة الأشغال الشاقة لتصل إلى ما لا يقل عن عشر سنوات بل والى خمس عشرة سنة.

أما احتمال وقوع الضرر فيتحقق مثلاً بحالة الحكم على المدعى عليه بعقوبة الإعدام نتيجة شهادة كاذبة ولكن قبل تنفيذ الحكم بالإعدام، يتضح للقضاء خطأ تأسيس أو صدور حكم بالإعدام بناء على شهادة كاذبة فلا يتم بهذه الحالة تحقق وقوع الضرر وهو تنفيذ حكم الإعدام.

عدول الشاهد عن شهادته الكاذبة قبل حصول الضرر :

هناك استثناء ورد بنص المادة /399/ من قانون العقوبات يعفى الشاهد من الجرم بموجبه إذا تحققت إحدى الحالتين وهما :

1-       الرجوع عن الإفادة الكاذبة في تحقيق جزائي قبل اختتامه وقبل تقديم الإخبار : واختتام التحقيق هو تهيئة الملف لإعطاء القرار به وإن كان غير نهائي لأن التحقيق الابتدائي هو التمهيد لجمع أدلة  الدعوى واستكمال أوراقها تمهيداً للإدانة أو البراءة، وبذلك فإذا ما رجع الشاهد عن شهادته الكاذبة قبل أن تختم عمليات التحقيق بقرار، فإن عدوله صحيحاً ويعفى من كامل العقوبة.

ويشترط أيضاًَ العدول السابق لتقديم الإخبار بحق الشاهد الكاذب يفيد ملاحقته بهذا الجرم، لأن عدوله بعد تقديم الإخبار لا يكون طوعياً وإنما بهدف تخلصه من الدعوى التي ستقام عليه بناء على الإخبار المقدم بحقه.

2-       رجوعه عن الشهادة الكاذبة أمام المحكمة قبل الحكم بأساس الدعوى بقرار ولو لم يكن مبرم : فمن حق شاهد الزور العدول عن شهادته في الفترة التي تبدأ اعتباراً من إحالة الملف على المحكمة المختصة وفي أية درجة كانت عليها وحتى قبل صدور الحكم بهذه الدعوى ولو كان غير مبرم، هذا إذا ما قدم شهادته أمام مرجع آخر غير المحكمة الناظرة بالدعوى كأن يكون تقدم بشهادته أمام قضاء التحقيق مثلاً.

والحالة الثانية هي التي تبتدئ بطلب العدول اعتباراً من تاريخ شهادته الكاذبة أمام ذات المحكمة وحتى قبل صدور حكم بهذه الدعوى.

تعـليـق :

نكرر مجدداً ما ورد بالمواد موضوع هذا البحث من أن عدم حلف الشاهد اليمين سبباً مبرراً لتخفيف العقاب، وهو اعتراف ضمني من المشرع بقبول الشهادة بدون يمين وفق هذا النص، ووفقاً لنص المادة /81/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

إنما لو عدنا إلى نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية المتعلقة بالشهادة لوجدنا ضرورة تحليف الشاهد اليمين قبل أداء الشهادة، ولم نجد ما هو جزاء عدم حلف اليمين قبل الشهادة، إلا بنص المادة /386/ الفقرة الرابعة منها التي ورد بها أنه إذا لم يحلف الشاهد اليمين على الصورة المبينة آنفاً تكون شهادته باطلة، فالمشرع بنص هذه المادة أعطى حكم البطلان لكل شهادة لم يسبقها اليمين القانونية وفق نصّها المحدد.

فلو أخذنا بهذا الحكم، لعطلنا حكماً نص الفقرة الرابعة من المادة /398/ من قانون العقوبات المتضمنة تخفيف العقاب إلى النصف لمن تستمع شهادته دون أن يحلف اليمين، وكذلك نكون عطلنا نص المادة /81/ من هذا القانون من جواز استماع من هم دون سن الخامسة عشرة كشهود ومن دون أن يحلفوا اليمين.

وإذا ما أخذنا بنص المادة /286/ لتوجب عدم عقاب شاهد الزور بهذه الحال الذي لم توثق شهادته بيمين، لأنها باطلة لا قيمة لها ولا يجوز أن يبنى على الباطل أي سبب عملاً بقاعدة ما بني على باطل فهو باطل، ولأنها تعدم الضرر الذي قد يحصل لأحد طرفي الدعوى أو تمس مركزهم القانوني لأن إهدارها أولى من إعمالها.

وما من خروج من هذا التناقض القانوني برأينا سوى اعتبار نصوص المواد موضوع هذا البحث المتعلقة بشهادة الزور خاصة المادة /398/ منها نصاً خاصاً يفضل على بقية النصوص الأخرى الواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية فيما يتعلق بالتجريم والعقاب بجرائم شهادة الزور والخاص يتقدم على العام بمثل هذه الحالة.

رابعاً - الركن المعنوي والقصد الجرمي :

تعتبر جريمة شهادة الزور من الجرائم العمدية التي تتطلب قصداً عاماً وهو نية الشاهد وقصده تضليل القضاء من خلال كذبه المقصود في شهادته، لذلك يستلزم هذا القصد العلم والإرادة لدى الفاعل، وبناء عليه يتوجب لبيان القصد الجرمي لدى الفاعل عند إقامة الدعوى عليه بهذا الجرم إثبات كذب الشهادة ثم سوء النية والقصد لديه، فلو أن الشاهد أخطأ في شهادته لضعف في ذاكرته وبدون وجود نية لديه لا يمكن ملاحقته بجرم الشهادة الكاذبة، وإن كان يصلح ذلك لمطالبته بالتعويض المدني في حال بني الحكم على شهادته وغيّر في مراكز الخصوم بتأثير واضح.

هذا ولا عبرة هنا للدافع أو الباعث الذي من أجله يرتكب الجاني فعله كأن يكذب في شهادته بقصد تخليص زميل له من العقاب.

إدلاء الشاهد ببيانات غير صحيحة عن هويته قبل بيان شهادته :

من الأصول المتبعة في سماع أقوال الشاهد أمام القضاء ، التثبت من هويته كإسمه وعنوان إقامته ومهنته ودرجة قرابته من أطراف الدعوى وفيما إذا كانت توجد عداوة بينه وبين هؤلاء .

هذه المعلومات يجري سؤال الشاهد عنها بمجرد مثوله أمام القاضي وقبل الإدلاء بشهادته، فقد يكذب الشاهد بأحد هذه البيانات أو بعضها أو بجميعها.

يمكن القول أن جرم شهادة الزور لا ينطبق على هذا الفعل لأن البيانات هذه التي يدلي بها لا تعتبر جزءاً من شهادته، وإن كانت تؤثر على مجرى الدعوى . إنما يمكن العقاب عليها إذا ثبت قيام الشاهد بهذا الفعل بما تقرره المادة /395/ من قانون العقوبات ، ونصها هو التالي :

« من استسماه قاض أو ضابط الشرطة العدلية أو أحد رجالها فذكر اسماً أو صفة ليست له أي أدلى إفادة كاذبة عن محل اقامته أو سكنه ، عوقب بالحبس ستة أشهر على الأكثر أو بغرامة لا تتجاوز المائة ليرة » .

إعفاء الشاهد من العقاب بنص المادة /400/ من قانون العقوبات العام :

أولاً -  الإعفاء الوارد بالفقرة الأولى :

قد يتعرض الشاهد لخطر جسيم يحدق به أو بشرفه أو بأحد أقاربه إذ قال الحقيقة عن الواقعة المطلوب شهادته عنها ، لذلك فإن خوف الشاهد من هذا الخطر يجعله يشهد زوراً بوقائع وأمور تخالف جزءاً من الحقيقة كلها أو يسكت عمداً عن حقائق أو ينكر الحق أو يجزم بالباطل .

اعتبر القانون أن الشاهد يقع تحت حالة الخطر فيما لو قال الحقيقة، لذلك وخروجاً من هذا المأزق الذي قد يتعرض له الشاهد ، فقد منحه المشرع عذراً محلاً من العقاب .

شروط هذا الإعفاء :

1-      وجود خطر جسيم : الخطر الجسيم هو الذي يفضي فعلاً إلى خوف حقيقي لمن يعتقد بحلوله به ويشترط بلوغه من الجسامة التي تؤدي فعلاً إلى زرع الخوف لدى الشاهد .

وهذا التأثر بالخطر يختلف من شخص لآخر فهو يراعي حالة الشخص الواقع عليه الخطر .

2-      ارتباط هذا الخطر بواقعة الشهادة : فيتوجب أن يكون الخطر ناشئاً فعلاً عن اعتقاد الشاهد أن قوله الحقيقة سيحقق هذا الخطر عليه ، لذلك يتوجب الربط ما بين قول الحقيقة ووقوع الخطر ، أو قول الزور وزوال الخطر .

3-      أن يهدد هذا الخطر حرية الشاهد وشرف الشاهد وزوجه ولو كان طالقاً أو أحد أصوله أو فروعه أو إخوته أو أصهاره من الدرجات نفسها : فيتوجب لاعتبار الخطر المحدق الذي يمنع الشاهد من قول الحقيقة هو معرفته أن هذا الخطر سيحل بحريته أو بشرفه أو بأي من الأشخاص الجاري ذكرهم حصراً بنص هذه المادة .

 

ثانياً - الإعفاء الوارد بنص الفقرة الثانية :

هناك موانع معينة قد تمنع شخصاً من الإدلاء بشهادته لأسباب ورد ذكرها بالقانون لذلك فإن من يذكر هويته أمام القاضي قاصداً استماعه كشاهد إلا أنه من غير المتوجب استماعه أو كان يحق له الامتناع عن أداء الشهادة فإن القانون يعفيه من العقاب .

والذي يبدو لنا في هذه الحالة أن الإجراء اقتصر على أخذ بيانات الشاهد دون الشروع في سماع شهادته ، لأن الركن المادي لهذا الفعل يقضي فقط فيمن يفضي أمام القاضي باسمه وكنيته وصنعته .

الاستثناء من نص الفقرة الأولى من المادة /400/ عقوبات :

تضمنت الفقرة الثانية من المادة /400/ عقوبات استثناء مفاده أن من يشهد زوراً نتيجة تعرضه لخطر جسيم يحدق به ، وأدت شهادته إلى ملاحقة أحد أشخاص الآخرين أو بني الحكم على هذه الشهادة فإنه يعاقب إلا أن عقوبته تخفض من النصف إلى الثلثين .

التحريض على شهادة الزور :

وردت أحكام هذه الحالة بنص المادة /401/ من قانون العقوبات وهي تقضي بتخفيض العقوبة إلى النصف لمن يحرض شخصاً على تأدية شهادة الزور إذ كانت شهادة هذا الشاهد الحقيقية الصحيحة تعرض المحرض أو أحد أقربائه لخطر جسيم .

الشاهد الذي يبدي أعذاراً كاذبة بقصد عدم الحضور :

قد يتذرع الشاهد المدعو لأداء الشهادة بأعذار غير صحيحة قاصداً من وراء ذلك إلى حرمان القضاء من سماع شهادته ، فقد يدعي أنه على سفر أو مريض أو بأي عذر آخر يمنعه من الحضور ، وهذا العذر برأينا منصب فقط على مسألة قصد الشاهد عدم حضوره لمجلس القضاء ، ولا يشمل الضرر للشاهد الذي يبدي عذراً قبل استماعه ، لأن من حق القاضي عندها أن يتخذ ما يشاء من إجراءات حيال هذا الموضوع .

العقاب على هذه الجرائم :

آ-  العقوبة البسيطة :

1-  الشاهد الذي يبدي عذراً بقصد تخلفه عن الحضور يعاقب بالحبس ثلاثة أشهر على الأكثر إضافة للغرامة .

2-  الشهادة أمام سلطة قضائية عقوبتها جنحوية وهي الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات .

ب- الظرف المشدد للعقوبة :

1-  تأدية الشهادة أمام تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية ، وتشدد العقوبة الجنحوية لتصبح جنائية وهي الأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر .

2-  صدور حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة ناجم عن هذه الشهادة ، فالعقوبة الأشغال الشاقة بما لا يقل عن عشر سنوات ، مع الحق بزيادتها إلى خمس عشرة سنة .

ج-  العقوبة المخففة :

1-  إذا استمع الشاهد دون أن يحلف اليمين فتخفف عقوبته الواردة في الفقرة /1-2-3/ من المادة /398/ إلى النصف .

2-  من النصف إلى الثلثين للشاهد الذي يدلي بشهادة الزور لظرف تعرضه لخطر جسيم وتقضي هذه الشهادة إلى ملاحقة شخص آخر أو لصدور حكم .

3-  تخفض إلى النصف عقوبة من حرض شاهداً على شهادة الزور إذا كانت شهادته الحقيقية ستعرض المحرض أو أحد أقربائه لخطر جسيم .

د -  الإعفاء من العقاب :

1-  رجوع الشاهد عن شهادته الكاذبة قبل اختتام التحقيق وقبل تقديم إخبار بحقه .

2-  رجوع الشاهد عن شهادته أمام المحكمة قبل صدور أي حكم في أساس الدعوى حتى ولو كان غير مبرم .

3-  للشاهد الذي يتعرض لخطر جسيم هو أو أحد من ذكر في المادة (400/1) ، إذا شهد بالحقيقة .

4-  الشاهد الذي يعطي بيان هويته للقضاء ولم يكن من المتوجب سماع شهادته أو يحق له الامتناع عن أدائها .

 

 

*   *   *   *

 

  محامي مازن الحنبلي