محامٍ عبقري .. رئيساً للحكومة !
عادة ما قد يلفت انتباهي محام عصامي , فقيه أديب , وقد يلف جناني سياسي محنك , ذكي لطيف , وحين وقعت على الاثنين معاً ثارت دهشتي ..
فالأستاذ سعيد الغزي .. محام دمشقي محترم , ذو نزعة استقلالية ظاهرة , ترأس الحكومة بعد استقالة صبري العسلي سنة 1955 م , بعد خلاص سورية من فترة الاستبداد العسكري الذي اعتقل العمل السياسي , وعودة الحياة الديمقراطية , مع بقاء التهديد المحتمل بقيام انقلاب عسكري جديد على السياسيين !
أعلن الغزي فوراً حياده التام في القضايا الداخلية , وعزمه الإبقاء على الصلات الأخوية مع جميع الدول العربية دون أن يلزم سورية بأية ارتباطات دولية - فقد كانت تلك الفترة فترة التحالفات والهلالات - !
وأعلن أن مهمته الأولى الإشراف على انتخابات حرة نزيهة وفق قانون انتخابات جديد , مما أكسبه مبدئياً ثقة الجيش , بالإضافة إلى الثقة الشعبية المتعشقة بتاريخه !
شكل الغزي حكومته في 9 حزيران , وعين موعداً في العشرين من آب لإجراء الانتخابات , وعمل على موافقة البرلمان على إلغاء قانون الانتخابات الذي فصله الشيشكلي , وإعداد قانون جديد وخلال عشرة أيام من تشكيله الحكومة !
كلف موظفي الداخلية بالإشراف على الانتخابات من درك ومحافظين وقائم مقامين , إلا إنه قام بنقل جميع هؤلاء إلى مراكز جديدة عن مواطنهم قبل الانتخابات درءاً لأي تواطؤ , أو بيع للأصوات , أو محسوبيات , أو علاقات !
وكان قد أسند الداخلية إلى شخص موثوق غير سياسي أو حزبي , جمع المشرفين ونبههم إلى أن النشاطات السياسية أو الحزبية أو التعاطف مع المرشحين محظور عليهم تحت طائلة المحاسبة باسم القانون !
وأعلن الغزي نظام الاقتراع السري , والمغلف المختوم , والغرفة المغلقة , كإجراء وصفه العديد من المؤرخين والمستشرقين على أنه ثورة في التجربة الانتخابية السورية والعربية !
إن محامياً مبدعاً , وسياسياً مرموقاً كان حقيقاً بفترة كتلك , فقد وصفت سنة خمس وخمسين بأنها نقطة مضيئة في تاريخ سورية , ففيها تم وللمرة الوحيدة في تاريخنا انتقال سلطات دستوري وديمقراطي بمراسيم وتقاليد عالمية , حيث سلم مقاليد الحكم فخامة رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي المنتهية ولايته , إلى فخامة رئيس الجمهورية شكري القوتلي المنتخب بشكل ديمقراطي وحر !
تلك صفحة مضيئة من تاريخ رجل جمع الأمجاد من أطرافها , بل تلك صفحة مجد في تاريخ سورية , تستحق أن تكون معلومة عن بلد ديمقراطي حر !
ولكم أحببت أن أفصل في سيرة ومواقف ذاك العملاق , ولكن عزمت على نفسي ألا أطيل ! ولعل لمقام آخر من حديث آخر ..
أنعم بذاك محامياً , وأنعم به سياسياً ..
دولة الرئيس
سعيد الغزي