هل أخطأ أحد المفكرين عندما قال إن أخطر أعداء العولمة هم دعاتها، أم أنه أصاب كبد الحقيقة؟ إن المراقب لتصرفات أسياد العولمة بكافة أشكالها الاقتصادية والتجارية والإعلامية والثقافية والديموغرافية يقف هذه الأيام مشدوهاً عندما يرى أن من يعرقل مسار انفتاح العالم على بعضه البعض وتقاربه وتفاعله حضارياً وإثنياً ويمارس لعبة الاحتكار الإعلامي والثقافي هم في واقع الأمر أصحاب نظرية العولمة أنفسهم وفي مقدمتهم طبعاً الأمريكيون ومن بعدهم الأوروبيون. فهم الذين يرفعون شعار "القرية الكونية" وهم الذين يدوسونه تحت أقدامهم عندما يتعارض مع مصالحهم الاحتكارية. ولعلهم في ذلك يقلدون أنظمتنا العربية التي كانت ترفع شعارات الحرية ثم تمارس من وراءها أبشع أنواع القمع والقهر والاستبداد والتفرقة والعنصرية. وإذا تركنا الشق الاقتصادي من العولمة جانباً وركزنا على الجوانب الإعلامية والثقافية والديموغرافية لوجدنا أن مدّعي العولمة يناصبونها العداء بشكل سافر ويقوضون أركانها دون أن يرمش لهم جفن ربما لأن العولمة، بالنسبة لهم، ليست أكثر من شعار جميل يهدف إلى تحقيق أغرض أخرى غير معلن عنها في "الإنجيل" العولمي المتداول.< br /> لقد رفع العولميون شعار التلاقح الحضاري والتفاعل العالمي والاندماج الكوني والتقريب بين الأمم من خلال فتح الحدود وإزالة الموانع التي كانت تحول دون اندماج العالم في قرية واحدة. لكنهم يمارسون في الوقت ذاته نفاقاً عز نظيره. فإذا أخذنا طريقة التعامل الأوروبية والأمريكية مع المهاجرين العرب في أوروبا وأمريكا لوجدنا أنها تتناقض تماماً مع ناموس العولمة. ففي فرنسا مثلاً شاهدنا كيف أن "حزب الجبهة الوطنية" بزعامة جان ماري لوبان حقق نتائج باهرة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية السابقة عندما تبنى قضية طرد الأجانب وفي مقدمتهم العرب من فرنسا. ومازال حزب لوبان يعتاش سياسياً على شعار معاداة الأجانب حتى الآن. صحيح أن الدولة الفرنسية جندت كل طاقاتها في الانتخابات الأخيرة كي تطرده من السباق ونجحت، لكن ذلك لا ينفي وجود توجه لا يُستهان به في الأوساط الفرنسية للتقوقع والإنكفاء على الذات في مواجهة الوافدين ومنع اندماجهم في المجتمع الفرنسي. وينطبق المثال الفرنسي على العديد من الدول الأوروبية وخاصة هولندا التي تتمتع فيها الأحزاب الوطنية المتطرفة بشعبية عالية في صفوف الناخبين. وهناك حديث خطير الآن في الأ وساط الأوروبية عن إمكانية تهجير ملايين العرب والمسلمين من الدول الأوروبية فيما لو لم يتخلوا عن جنسياتهم الأصلية. فربما سيُخير العرب والمسلمون بين احتفاظهم بجنسيات بلدانهم وبين جنسية البلد الأوروبي الذي يعيشون فيه. وفي ذلك طبعاً ابتزاز سافر لهؤلاء المهاجرين. ويهدف الأوروبيون من وراء هذه السياسة الظالمة إلى إحلال الأوروبيين الشرقيين الذين انضمت بلدانهم إلى الاتحاد الآوروبي مؤخراً محل المهاجرين الأجانب وجلهم من البلدان العربية والإسلامية وذلك بحجة التشابه الحضاري بين أوروبا الشرقية والغربية وكأنهم بذلك يطبقون نظرية صامويل هنتنغتون القائمة على صراع الحضارات بحذافيرها.
ولا يختلف الأمر بالنسبة لأمريكا إن لم يكن أسوء بسبب تبعات أحاداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد أصبحت زيارة أمريكا بالنسبة للعرب أمراً محفوفاً بالمخاطر والإزعاجات الرهيبة حتى لو كان لدى الزائر تاشيرة دخول إلى الأراضي الأمريكية. وقد سمعنا كيف أن السلطات الأمريكية أعادت شخصيات عربية مرموقة على نفس الطائرات التي استقلوها إلى بلدانهم بحجة أنهم أشخاص غير مرغوب فيهم أو لأنهم، على حد زعم الأجهزة الأمريكية، لم يستوفوا شروط الدخول. ويحدثونك عن سقوط الحدود وتحول العالم إلى فضاء واحد مشترك!! إن السياسات الغربية في واقع الأمر هي أكبر عدو للعولمة وهي تشجع أيضاً على التقوقع والإنزواء وصدام الحضارات بدلاً من تلاقيها. إنها عولمة في اتجاه واحد. فالأمريكيون والأوروبيون يريدون أن يستبيحوا أراضينا وبلداننا بحجة التعولم، لكنهم لا يريدون لنا أن تطأ اقدامنا أراضيهم إلا بشق النفس.
وما ينطبق على الجانب البشري ينسحب أيضاً على الجانب الإعلامي والثقافي. فقد بشرنا دعاة العولمة ومخترعوها بعصر السموات المفتوحة وزمن الانترنت الذي لا يتعرف بحدود ولا قيود. وأوهمونا أن العالم سيستمتع بحرية إعلامية لم يشهدها في تاريخه بفضل ثورة المعلومات والتكنولوجيا الحديثة. لكن القرية الكونية الموعودة إعلامياً لن تتحقق على ما يبدو وذلك بسبب الانتقائية الغربية تحديدا والميل الدائم إلى الاحتكار الذي يميز العقلية الرأسماليةً. فأمريكا وأروبا تريدان اختراق فضاءاتنا الإعلامية وإغراقها بثقافاتها المتعددة بحجة السموات المفتوحة، فهي ما انفكت تمطرنا بأفلامها وبرامجها المتعارضة شكلاً ومضموناً مع ثقافاتنا وخاصة الأفلام والقنوات الإباحية، لكنها تضع ألف عقبة وعقبة في وجه الإعلام العربي الذي يصل إلى أراضيها. أي نفاق أكبر من هذا النفاق؟ لقد سمعت أحد كبار الإعلاميين الأوربيين يتذمر ذات مرة لأن الأمريكيين لم يقصفوا مكاتب بعض القنوات الفضائية العربية في أفغانستان والعراق ويدمروها عن بكرة أبيها لأن تغطيتها لم ترق للغزاة. يا للعولمة!!إنه الإرهاب الإعلامي بعينه. وهل نسينا الضجة الكبيرة التي أثارها ال لوبي اليهودي في كندا قبل فترة لمنع بث قناة (الجزيرة) على خدمة الكابل المحلية. لقد ضغطوا بكل الوسائل تحت حجج ومزاعم واهية لكنهم لم ينجحوا. ويجب أن لا نغفل أيضاً التحقيقات والاستدعاءات التي مارستها سلطة مراقبة وسائل الإعلام في فرنسا بحق بعض القنوات الفضائية العربية لنفس الأهداف.
إن حملة التضييق على وسائل الإعلام العربية والإسلامية جزء لا يتجزأ من حرب الأفكار التي يشنها أرباب العولمة علينا، فهم لا يكتفون بالحجر على ما تبثه وسائل إعلامنا بل "يحاولون جاهدين إعادة بناء الأديان والثقافات. وهم يحصرون هذه المهمة بالدين الإسلامي والثقافة الإسلامية وينشدون صوغ إسلام على مقاسهم يتقبل قيمهم وتوجهاتهم. فلم يعد حتى نظام القيم شأناً خاصة في عصر عولمتهم وكذلك الثقافة لم تعد شأناً محلياً تراكمياً تخناره الأمم والشعوب وتنتجه بقدر ما غدت القيم والثقافات خاضعة لاختيارات قوى الخارج ولعبة مصالحها ودخلت في سلم أولوياتها. وهي اختيارات مغلفة تحت عنوان الدفاع عن القيم المدنية والديموقراطية وتقاس بمدى اتفاقها مع اسلوب الحياة الغربية." إن حرب الأفكار هذه لا تقبل بأقل من اجتثاث كل وسيلة تسير في اتجاه معاكس لما يُراد فرضه غربياً أو بالأحرى إلغاء الآخر إعلامياً. وقد شاهدنا كيف أن الأمريكيين لم يسمحوا لأي وسيلة إعلام عربية لتغطية اجتياحهم للفلوجة. إنهم باختصار لا يريدون سماع وجهة نظرنا وأصواتنا بل يبتغون فقط أن نسمع آراءهم ووجهات نظرهم وتبني تقاليدهم وقيمهم كما لو كنا غير جديرين ب التعبير عن آرائنا وأفكارنا ونشر مفاهيمنا وقيمنا!!
لقد جاء القرار الفرنسي بمنع قناة (المنار) اللبنانية من البث في الأراضي الفرنسية عبر القمر الأوروبي (يوتلسات) ومن بعده القرار الأمريكي بوضع القناة على لائحة المنظمات الإرهابية لينسف أكذوبة السموات المفتوحة ويعريها ويكشف زيف إسطورة الإعلام الحر. ويا ليتهم يقارعون الحجة بالحجة. لكنهم بدلاً من ذلك يلجأون إلى إسلوب الترهيب والاستئصال فوراً كما تفعل الأنظمة الشمولية عادة. فالعولمة حسب تعريفهم المزاجي لها لا تعني الفضاءات المفتوحة إلا بالنسبة لوسائل إعلامهم. أما وسائلنا فهي مقيدة بألف شرط وشرط كي يكون لها شرف التمتع بمنجزات الثورة الإعلامية. هل ما زالت السموات مفتوحة بعد الإجراءات الفرنسية والأمريكية؟ هل مازال الفضاء العالمي مشتركاً بين الأمم، أم أنه يضيق يوماً بعد يوم بسبب المكارثية والاحتكارية الإعلامية الغربية الرهيبة؟ ومما يزيد الأمور خطورة أن الغربيين لا يريدون التحكم فقط بأقمارهم الصناعية التي تبث عليها القنوات العربية بل أيضاً بالأقمار التي يمتلكها العرب كقمر (عرب سات) الذي وصفته إحدى الصحف الفرنسية "بأعلى مإذنة في أوروبا" أي أنه برأيها رمز للإصولية والتطرف. إذن فإن مقولة ال سماوات المفتوحة، حسب الغمز واللمز الغربي، ليست أكثر من وهم كبير بكبر السماء ذاتها. ولكم شعر العديد منا بنوع من القرف والغثيان وهو يقرأ مقالات لمن يسمون أنفسهم ليبراليين عرباً جدداً يباركون فيها القرارين الفرنسي والأمريكي بوقف بث قناة المنار. فمن جهة يزعمون أنهم يريدون نشر قيم الحرية والانفتاح في مجتمعاتنا ومن جهة ثانية يهللون لأشكال صارخة من القمع والمنع الغربية. لماذا يصبح تكميم الأفواه مبرراً عندما يمارسه أسيادهم الغربيون؟ لا أستطيع فهم ذلك! أليس المنع واحداً أياً كان فارضه؟
ولم يكن منع بث قناة المنار أول انتهاك لنواميس العولمة، بل سبقتها قبل فترة محاولات لإغلاق مواقع انترنت عربية وإسلامية في أمريكا. فقد داهمت قوات (الأف بي آي مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي) ذات مرة مراكز الكترونية تابعة لمنظمات إسلامية في أمريكا وقلبت مكاتبها راساً على عقب وصادرت محتوياتها وعطلت بثها على الشبكة الدولية. وقد أصبحت عبارة "هذا الموقع مغلق بأمر من الحكومة الأمريكية" معروفة جيداً لدى مرتادي مواقع الانترنت في أنحاء العالم. وهل نسينا أيضاً أن أمريكا قادرة على إطفاء شبكة الانترنت العالمية بكبسة زر؟ فربما لا يعرف الكثيرون أن مفتاح الشبكة العالمية موجود لدى البحرية الأمريكية التي بإمكانها أن تقطع الانترنت عن أي بلد تريد. وهو أمر قد يحدث مستقبلاً كنوع من العقوبات الاقتصادية على البلدان التي تعتبرها واشنطن مارقة. وهل نسينا أيضاً أن الأحرف الأربعة http التي تظهر لنا فوراً عندما نفتح موقعاً على الشبكة تعني أن الفتح يمر عبر بروتوكول خاص مربوط بأمريكا، ناهيك عن أن الحرية الالكترونية المزعومة ليست أكثر من وهم أيضاً، فكل ما يُنشر عبر الانترنت من أفكار ورسائل الكترونية تفلتره أ جهزة الكومبيوتر العملاقة القابعة في مراكز التحكم الالكترونية بأمريكا بحجة مكافحة الإرهاب.
لقد غدت تهمة التحريض على التطرف والإرهاب سيفاً مسلطاً على وسائل الإعلام العربية بكافة أنواعها دون أن يكون هناك تعريف متفق عليه دولياً للإرهاب. وما لم تكن تلك الوسائل سائرة في الفلك الأمريكي فهي معرضة بين لحظة وأخرى لكل إجراءات التضييق وحتى الإغلاق. فتجربة قناة (المنار) والضغوط التي تـُمارس على غيرها عبرة لمن يعتبر وهي رسالة واضحة لبقية وسائل الإعلام العربية. إنها سابقة خطيرة قد تطال لاحقاً وسائل إعلام عربية وإسلامية أخرى. لكنها على الأقل فضحت خرافة السموات المفتوحة وأزالت الغشاوة التي كان المروجون لأسطورة العولمة الإعلامية والثورة المعلوماتية يغطون بها أعين البسطاء، كما أنها أظهرت كيف أن العولمة بدأت تنقلب على نفسها بطريقة مفضوحة، وكأنهم يقولون لنا: "إنـّا نحن أطلقنا الأقمار الصناعية وإنـّا لها لمراقبون وبها لمتحكمون".
منقول عن د. فيصل القاسم : ( كلنا شركاء) 27/12/2004