كانت وسائل الإعلام السورية قد نشرت صورة بانورامية للسيد الرئيس وهو يترأس اجتماعاً مميزاً لمجلس القضاء الأعلى بتاريخ 4/5/2003. وقد جاء هذا اللقاء بعد غياب طويل للقاءات مشابهة. وهو اجتماع سيادي وفق نص المادة 132 من الدستور التي نصت على أنه: (يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى، ويعين القانون طريقة تشكيله واختصاصه).
من الثابت أن الهيكل الدستوري في نظامنا السياسي في القطر يرتكز إلى سلطات ثلاث تمارس مهامها الدستورية مستقلة بعضها عن بعض حفاظاً على سيادة الوطن وصيانته. وهذه السلطات الثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
ومن الثابت أيضاً في الفقه الدستوري، وفي الواقع، أن تجاوز السلطات صلاحيات بعضها يؤدي إلى خلل سيادي ينعكس على المجتمع ويخلق الفوضى ويُفقد العدل عدالته ويضيّع الحقوق. ومن هنا بحثنا هذا في استقلال القضاء.
نصت المادة 131 من الدستور على أن السلطة القضائية مستقلة. ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال. يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى. وهذا يعني أن الدستور قد أناط بالسيد رئيس الجمهورية السهر على احترام الدستور، وهو يضمن السير المنتظم للسلطات العامة وبناء الدولة (الفقرة 1 من المادة 93 من الدستور). وبما أن مجلس القضاء الأعلى هو المرجع الثقة للإشراف على سير السلطة القضائية بهدف تطبيق القانون وإقامة العدل والمساواة، فهذا يعني أنه لا سلطة على القضاء سوى لمجلسه الأعلى ورئيسه السيد رئيس الجمهورية.
لكن واقع الحال يقول إن الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى، من أربعة عقود، هو وزير العدل. وهو من السلطة التنفيذية. والسبب القانوني الذي أوجد هذا الخلل الدستوري بوضع السلطة القضائية تحت تصرف السلطة التنفيذية (وزير العدل) هو أن مجلس الرئاسة الذي كان يحكم في عام 1966 أصدر المرسوم التشريعي رقم 24 بتاريخ 14/2/1966 عدّل فيه المادة 3 من أحكام المادة 65 من قانون السلطة القضائية فصارت كما يلي:
تُعدّل المادة 65 من قانون السلطة القضائية ويصبح نصها كالآتي:
رئيس مجلس الرئاسة، ينوب عنه وزير العدل، رئيساً.
رئيس محكمة النقض، عضواً.
النائبان الأقدمان لرئيس محكمة النقض، عضوين.
الأمين العام لوزارة العدل.. عضواً.
النائب العام.. عضواً.
رئيس إدارة التفتيش القضائي.. عضواً.
من هذا التشكيل يتضح أن عدد قضاة الحكم في مجلس القضاء الأعلى هم ثلاثة. وباعتبار وزير العدل يترأس هذا المجلس، والأعضاء الثلاثة الباقون مرتبطون وظيفياً بوزير العدل وفق تسلسل السلطة (المادة 56 من قانون السلطة القضائية) فإن وزير العدل يهيمن على مجلس القضاء الأعلى بالتعيين والترفيع والنقل والتأديب وإصدار الأوامر وغير ذلك. وهذا هو الواقع الحي.
إن هذا المرسوم التشريعي الصادر عام 1966 أفقد السلطة القضائية استقلالها. وهو ما استمر حتى الآن.
وهذه التبعية تؤثر سلباً على القضاء والقضاة. وتعطل أحكام المادة 133 من الدستور التي نصت على أن: (القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون). (شرف القضاة وضميرهم وتجردهم، ضمان لحقوق الناس وحرياتهم).
جاء التعديل إذاً من سلطة سياسية بناء على دستور مؤقت. وفي 3/3/1973 أعلن مشروع الدستور الدائم للبلاد ثم أقر. وقد نصت المادة 153 منه على ما يلي: (تبقى التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور سارية المفعول، إلى أن تُعدل بما يوافق أحكامه). وبما أن الدستور الدائم نص على أن السيد رئيس الجمهورية هو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى. فإن استمرار تطبيق المادة 65 المعدلة من قانون السلطة القضائية مشوب بعدم الدستورية لمخالفتها القواعد الدستورية التي نص عليها الدستور الدائم النافذ.
وبالتالي، فإن ما نصت عليه المادة 132 من الدستور، بدلالة المادة 153 منه هو بمثابة إلغاء ضمني لذلك التعديل. وهذا ما قرره الفقه الدستوري: (التعارض بين القديم والجديد: تتحقق هذه الصورة من صور الإلغاء الضمني بقيام تعارض بين قواعد قانونية قديمة وقواعد قانونية حديثة، إذ يُفهم ضمناً -وتطبيقهما معاً مستحيل- أن الأحدث منهما قد نسخ الأقدم وألغاه. وبديهي أن الإلغاء الضمني في هذه الصورة لا يكون إلا في حدود التعارض والتنافر بين القواعد القديمة والقواعد الحديثة. فإذا صدر قانونان متعاقبان في الزمان ومتناقضان في الأحكام، عُدَّ القانون القديم منسوخاً ضمناً بالقانون الحديث إذا كان التعارض بين أحكامهما تاماً وكلياً) (المدخل إلى القانون. د.حسن كيرة - ص 333/ بند 182).
إضافة إلى ذلك، القواعد الدستورية تسمو بالسيادة على القوانين والمراسيم التشريعية التي يصدرها المشرع. وهذه الأخيرة تتسربل بعدم الشرعية فيما إذا تعارضت أو خالفت القواعد الدستورية. وقد تبنى الاجتهاد القضائي في قطرنا هذه القاعدة الدستورية. وذلك بالامتناع عن تطبيق قانون أو مرسوم في قضية ما إذا وجدوه مخالفاً الدستور.
لا بد من القول أخيراً إن استقلال القضاء وإصلاحه صار ضرورة ملحة للدولة والشعب معاً. لإقامة العدل وتحقيق المساواة. ولمحاربة الفساد ومكافحة الفاسدين.
منقول عن مقالة لسامح سمير المحامي