منتدى محامي سوريا

العودة   منتدى محامي سوريا > المنتدى الفقهي > أبحاث قانونية مختارة > أبحاث في الفقه الإسلامي

إضافة رد
المشاهدات 8313 التعليقات 1
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-06-2006, 09:54 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الدكتور جودت سعيد
إحصائية العضو






آخر مواضيعي



افتراضي الدين والقانون للدكتور جودت سعيد

نتابع معكم نشر بعض الأبحاث المهمة التي تستحق التفكير والدراسة والمناقشة ومنها هذا المقال للدكتور جودت سعيد:



الدين والقانون
رُؤْيَة قُرآنيَّة
المقدمة
هذا البحث نتيجة للقاء فكري مفيد مع السيدة الأستاذة الدكتورة في الفلسفة والأستاذة الدكتورة في القانون (عزيزة الهبري) وهي حالياً أستاذة القانون في جامعة ريتشموند في فرجينيا، وكان من حديثها أنها بحثت مع القائمين على مجلة الدين والقانون في الولايات المتحدة أموراً دينية وقانونية عن الإسلام، فطلبوا إليها أن تتولى إصدار عدد خاص من هذه المجلة، وتكتب وتستكتب من تريد من المسلمين. فعرضت عليّ المساهمة فكتبت هذا الموضوع وأرسلته إليها لترى وتكلف من تريد بالترجمة.
ونتمنى لها النجاح وهي مقتدرة مكينة.
وحين كتبت ما كتبت كنت أتصور القارئ المعيّن الذي أتوجه إليه بالخطاب، وقد أكون وفقت في تصوراتي في جانب، وجانبني الصواب في جانب آخر، ومحصلة الرؤى المختلفة يحكمها قانون (الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) كما أن جمهور أهل الذكر هم الذين يحكمون بصوابية الفكرة أو خطئها حتى يتبين الرشد من الغي، وفي كل مرة يهتدي الناس إلى ما هو أقرب رشداً، وقانون الله في النسخ أن الأنفع ينسخ الأقل نفعاً، وشريعة الله هي العدل، وإذا ما اختلف فيما هو أقرب للعدل يؤخذ بتفسير جمهور أهل الذكر، فإذا كانت الأفكار تستقبلها مِصْفَاة أهل الذكر فلا يخشى من الفهم الخاطئ حيث يستبعد الخطأ، ويبقى ما ينفع الناس، وبهذا الأسلوب يفتح باب التقدم إلى النافع، والتخلص من الزبد، وعسى أن يهدينا الله تعالى لما هو أقرب رشداً.

جودت سعيد
دمشق في 12 رمضان 1418
10/1/1998

بحث في أسس الدين والقانون من رؤية قرآنية

للبحث في القانون والدين ينبغي أن نبحث في الإنسان الذي يفرض كينونته الخاصة: الدين والقانون. وسأحاول تناول الموضوع من جانبين:
1- من الناحية البيولوجية والنفسية والتاريخية.
2- من الناحية الدينية كما يعرض القرآن لهذه القضية، من وجهة نظري الخاصة في التفسير فقد يتداخل الجانبان أثناء البحث، وإن كنت سأحرص على البقاء في الفصل بينهما والاستعانة بهما معاً.
في البدء ينبغي أن نحدد هذين الجانبين اللذين أتحدث عنهما والذين سميتهما الناحية البيولوجية والناحية الدينية، ولأحدد هذين الجانبين بدقة أكثر يمكن أن أقول: إن الموضوع يتعلق بالواقع الذي نتعامل معه، فهو أمامنا بذاته وبماديته، والذي نحن جزء منه أيضاً، وتعلق بتصورنا نحن لهذا الواقع، فمن هذا الجانب أجعل الدين أيضاً تصوراً مهما كان مصدره، لأنه لا يمكن أن يصل إلينا إلا تصوراً وبواسطة الرموز.
ولأزيد الموضوع وضوحاً أكثر ليكون انطلاقنا من أرضية صلبة وواضحة ينبغي أن نفرق بين الموضوعات التي أمامنا وبين الصور الذهنية التي تتكون عندنا نحوها، ولأزيد الموضوع وضوحاً ينبغي أن أضرب مثلاً: ففي الإنجيل: « كلم به يسوع الجموع بأمثال، وبدون مثل لم يكن يكلمهم » متى (13:24).
وفي القرآن: (وتِلكَ الأمثالُ نَضْرِبُها للناسِ وما يعقلُها إلا العالمونَ) ] العنكبوت: 29/43 [.
ومن غير أن نخوض في الجدلية القائمة بين القاعدة والمثال، ينبغي أن نعرف أن الأمثلة منها تستنبط القواعد، وأن القاعدة مصدرها الوقائع، والوقائع هي الأمثلة، والمثل الذي أريد أن أضربه هنا لأفصل بين الوقائع والصور الذهنية هو الشّمسُ التي يضرب بها المثل في الوضوح والظهور في جانب كم كانت الصُّور الذهنية للبشر خاطئة في تفسير ظاهرة الليل والنهار، وكيف أخطأ البشر جميعاً في فهم الظاهرة التي كانوا يعيشونها.
حتى إن الإنسان هو الذي كشف خطأ تصور الناس في ظنهم أن الشمس تدور حولنا، وأن الأمر بالعكس تماماً، فنحن الذين ندور حولها وأمامها، وليست هي التي تدور حولنا.
إن هذه الصورة الذهنية القديمة كان الناس حريصين عليها، وعندهم استعداد لأن يموتوا من أجلها، وأن يرسلوا الآخرين إلى الموت بسببها.
فإذا كانت هذه الشمس مضرب المثل في الوضوح صارت أيضاً مضرب المثل في الخفاء، إذا كان في الإمكان الوقوع في الخطأ إلى هذه الدرجة من قبل الناس جميعاً، فما هو التفسير الذي يمكن أن نقول عنه: إنه لا يتطرق إليه الخطأ حتى نسمح لأنفسنا بأن نحكم على الناس بالموت لأجل أفكارهم (صورهم الذهنية) ؟ كما حدث مع جاليلو الذي أظهر تراجعه، ويده على الكتاب المقدس أمام العالم الذي أنكر رؤيته.
بهذا التسلسل الذي قدمته، والمثل الذي ضربته، يمكن لنا أن نفرق بين العالم الذي نعيش فيه ونحن جزء منه أيضاً. فهذا الاتصال والانفصال بين العالمين عالم الواقع والخيال، أو الصورة الذهنية البيولوجية بواسطة الجهاز العصبي عند الإنسان موضعُ جدلٍ وبحث من قبل الإنسان.
ويمكن أن نشبه فكر الإنسان في هذا الموضوع برؤيته البصرية فالأشياء البعيدة جداً تنفصل عنا، ولا نراها، ولا نحس بها، ولا نعترف بها، والأشياء القريبة جداً قد ننغمس فيها، ولا تعود لنا القدرة على رؤيتها لقربها وانغماسنا فيها، فلابد من مسافة معينة لتكون في متناول إحساسنا وتأملنا وتعاملنا معها. ويوسع الإنسان هذه المسافة التي يمكن فيها من التعامل مع الوجود المحيط به وذاته.
والآن سأتناول ما سبق أن طرحته عناوين بالإضاءة مستعيناً بالرؤية التاريخية للإنسان، والرؤية الدينية النبوية من خلال القرآن، ويهمني إضاءة مشكلة العنف التاريخي والديني حيث إن الإنسان محور أساسي في بحث أي مشكلة وجودية. فمن دون الإنسان لا يوجد بحث.
فما هو الإنسان في التاريخ وفي الدين وفي القرآن ذاته ؟.
أولاً من الناحية التاريخية إن الناس قبل قرون قليلة لم يكونوا يعرفون عن تاريخ الإنسان قبل آلاف قليلة شيئاً. ولكن علم الإنسان بالإنسان في القرون الأخيرة امتد إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنين، كما دلّت عظام (لوسي)، وعلم الإنسان عن الإنسان أنه عاش قبل أن يعرف إيقاد النار، وقبل أن يستأنس الحيوان، وقبل أن يعرف الزراعة، إلى درجة أنه يمكن أن نقول إن الإنسان كان كبقية الكائنات الحية، لم يكن يتدخل في توجيه حياته، ولم يكن ينتج غذاءه، ولكن هذه القوة الجديدة الممنوحة للإنسان متى بدأت وكيف انفصل الإنسان عن بقية الكائنات بهذه الإمكانية ؟.
إن الإنسان مكبّ على التعرف على مسيرة خلق الإنسان بدأب لا يعرف التوقف، وكل يوم يزداد علماً وسيطرة.
إن هذه الإمكانية العجيبة في سلطة الإنسان كامنة في جهازه العصبي النامي القابل للاستيعاب، ولعل القابلية لنقل التجربة إلى الآخر بواسطة الكلام أو تسمية الأشياء هي الإمكانية العجيبة التي انضافت إلى الإنسان، وبهذا انفصل الإنسان عن بقية الكائنات هذا الانفصال البعيد والمنقطع، ويمكن أن نقول: إن كل الكائنات الحية الأخرى تولد وهي تحمل في جيناتها سلوكها والمعرفة التي ستعيش بها، ولكن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يولد ولا تولد معه المعرفة التي سيعيش بها، وإنما يكتسبها بعد ذلك، وإنه يحمل الاستعداد للتلقي والاستيعاب هو الشيء المدهش الذي جعل سلطان وقدرة الإنسان على التزايد المستمر، لمعرفة الكون الذي نعيش فيه، ولمعرفة ذاته. فقد امتدت معرفته بالوجود إلى حافة الزمان والمكان. وامتد زمانه ومكانه إلى ما يزيد عن عشرين ملياراً من السنين زماناً ومكاناً، ودخل إلى داخل الذرة في الوجود، كما دخل إلى سر وجوده في جيناته إلى أن قالوا: بدأ اليوم الثامن في توسع معرفة الإنسان، وهذه المعرفة التي اكتسبها الإنسان تبعث فينا الخبال ؛ لأن نفكر في الكائنات التي كانت تعمر الأرض قبل سبعين مليون سنة، تلك الكائنات الضخمة الهائلة الجثة والصغيرة الدماغ حيث الإنسان الآن يعيش، هذا الكائن الصغير الجسد وكبير الدماغ، فماذا يمكن أن يكون عليه الكائن الذي سيعمر الأرض بعد سبعين مليون سنة من تاريخنا الآن ؟
لابد أن الإنسان سيكون له دوره الواعي في تطور ذلك الكائن الذي سيكون.
وعلى قدر عمق معرفة الإنسان بالماضي كيف كان وكيف ازداد نموه ستكون قدرة معرفته للمستقبل وإمكاناته الكامنة فيه. وهذه المعرفة العميقة في الماضي والممتدة في المستقبل، تكسب الإنسان تفاؤلاً وإعجاباً بالإبداع للنظام الذي يحكم الكون ويخرجه من التشاؤم. فالطفل العاجز عن خدمة نفسه لا يعتبر ناقصاً في الإبداع، حين نعرف ما يمكن أن يتحول إليه، فلهذا إن الرؤية اللحظية تجعل الإنسان في ريبة وتشوش ويأس يقلل من فعاليته. لذا يمكن أن نقول: إن الإنسان إنسان بقدر ما يعلم من تاريخ الإنسان برسوخ ووضوح.
وإن المعرفة التاريخية الممتدة المستوعبة هي روح الإنسان، واستخدام جهازه العصبي القابل للاستيعاب يكافئه، ومن دون هذه المعرفة ورسوخها يكون النقص والفساد والعكس بالعكس. وغياب هذه الصورة الشاملة عند كثير من الأسماء اللامعة، يجعلها مبعث تشاؤم ورؤية لجوانب النقص وعجز عن رؤية جوانب الإبداع المستمر الذي لم يفقد هدفه قط خلال تاريخ الإنسان، وتاريخ الوجود مع كل القصور الذي يمكن أيضاً بوضوح.

الإنسان في الدين والقرآن:

وهنا قبل أن أبدأ بعرض الفكرة الدينية عن الوجود والإنسان بعد العرض التاريخي، مفيد أن نلفت النظر إلى أهمية التطور الحاسم الذي فصل الإنسان عن بقية الأحياء، وهو الجهاز العصبي المستوعب، وجهاز النطق المرسل، حيث ترتب على هذا الإبداع المبهر إمكانية نقل الخبرة (المعرفة) من الجهاز العصب إلى الجهاز العصبي الآخر بالرمز الصوتي، فإن الجهاز العصبي يستوعب الأشياء بالرمز الضّوئي (رؤية الأشياء)، ولكن ما استوعبه الفرد بخبرته الخاصة ورؤيته الضّوئية، يمكن أن ينقله إلى الآخر بالرمز الصوتي الكلامي. ثم ابتكر الإنسان المبدع تحويل الرموز الصوتية إلى رموز ضوئية بالكتابة، فهنا حدث اقتصاد كبير للتبديد الذي كان يتم بموت الإنسان وموت خبرته معه، فقد ابتكر وسيلة يحفظ فيها خبرته ولا تموت بموته، وهذا الابتكار حديث في حياة البشر، حيث لا يزيد عمر الكتابة عن خمسة آلاف عام، أما عمر الورق الذي سهل الكتابة فمنذ ألف عام أو يزيد قليلاً، وأما الحفظ الإلكتروني فمنذ عقود قليلة.
فالخبرة لا تنتقل من دماغ إلى آخر إلا بواسطة الترميز بالضوء أو الصوت، ومع إمكان الخطأ في تفسير المرئي والمسموع فإن هذا الخطأ يمكن تلافيه، وهذا شيء مهم جداً أرى أنه لم يتم الانتباه إليه، ففقدوا الثقة وتشككوا في إمكان الفهم، ووصلوا إلى العدمية الحديثة كالسوفسطائية القديمة.
فقد نخطئ في فهم ورؤية حركة الشمس ونخطئ في فهم العبارة التي تدل على المعنى. ولكن الشمس لن تخطئ في حركتها من أجل خطئنا في فهمها، ولن تبالي بخطئنا بل ستظل تتبع قانونها.
وقد نخطئ في فهم الكلام المسموع والمقروء ولكن لن يخطئ المعنى الذي يتعلق بالوجود الذي يحتفظ بقوانينه، فهذا الخطأ المحتمل في قصور الرمز ونقصان كفاءته في نقل الخبرة، يكمل ويصحح بالعودة إلى المرموز إليه، وليس إلى الرمز، ولا إلى الصورة الذهنية، وإنما إلى الواقع الخارجي الحي النابض الذي لن يخرج على قوانينه، وكلما عدت إليها تجدها كما هي، فقوانين الوجود لا تخطئ مهما أخطأنا نحن في فهمها وتفسيرها، وبهذا نكون حللنا مشكلة النص والرمز والدلالة وهو شيء مهم جداً في الدخول إلى عالم الدين.
ولقد قلت من قبل العبارة التالية وأعيدها هنا لتأكيدها:
(إن الموضوع يتعلق بالواقع الذي نتعامل معه، فهو أمامنا بذاته وبماديته والذي نحن جزء منه أيضاً، ثم بتصورنا نحن لهذا الواقع. فمن هذا الجانب أجعل الدين أيضاً تصوراً مهما كان مصدره ؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلينا إلا تصّوراً وبواسطة الرموز).
ويكون التأكد منه بالعودة إلى الموضوع الذي يتحدث عنه.
وهنا يمكن أن نرى العلاقة بين الوجود الذي يحتفظ بقوانينه التي لا تتغير، وبين صورنا الذهنية وكلامنا المنطوق أو المكتوب علاقة لا فكاك منها، فلا فائدة من الرموز من دون خبرات، ولا فائدة من الخبرات إلا إذا أمكن نقلها بالرموز، فهذا موضوع الإبداع في الإنسان الذي تحرر من قيود نقل الخبرة بواسطة الجينات، إلى التمكن من النقل بواسطة الرموز الضوئية والصوتية.
إذن فالوحي أو الفكرة المتولدة من الخبرة كلاهما لا يمكن نقلهما إلى الآخر إلا بواسطة الرمز الضوئي أو الصوتي. فالنبي المرسل والكتاب المنزل، والإنسان الذي يستقبل ذلك، معرض لما تعرضت له الشمس من الفهم الخاطئ نفسه، وبغير العودة إلى الواقع الذي كونّا عنه صورنا الذهنية، لا يمكن التعويل على صورة ذهنية، ولا رمز ضوئي، ولا صوتي. وحتى سمعنا وبصرنا لا يغني عنا شيئاً حين نفقد التعامل مع الوقائع، وهذا الفصل والوصل في آنٍ واحدٍ، بين الوقائع والصور الذهنية أمر جوهري في حياة الإنسان، وخاصة في المجال الديني حيث كان الفصل أصعب، ويمكن أن نقول: إن الدين أو المتعالي أو المقدس خاطبنا بلغتين: لغة الوقائع والقوانين التي تحكم وجودنا، ولغة الرموز التي تعبر بالتأويل عن الوقائع، ولابد من الفصل بينهما وأنهما ليسا شيئاً واحداً، ولو كانت كلمة النار ناراً واقعية لحرقت اللسان الذي ينطق بها، والورق الذي يكتب عليه، ولابد من الوصل بين النار الموقدة خارج كلمة النار، وكلمة النار التي لا يمكن نقل المعلومات والخبرات عنها إلا بواسطة الكلام. وليكون الفصل والوصل حقيقياً ومفيداً، فإن المرجع هو الوقائع لزيادة المعرفة، والرموز أو الكتب هي المرجع في تحصيل المعرفة التي سبق أن حصل الناس عليها.
فهذه المزدوجة هي ما امتاز بها الإنسان ليخرج عن بقية الكائنات الحية، وليستمر في معرفة سنن التسخير وحفظ قوانينه بالرموز، وبالكتب، بوسائل نقل المعرفة وحفظها.
والتعامل مع الوقائع له قوانينه ومراجعه بإحصاء العواقب النافعة، وكذلك التعامل مع الرموز له قوانينه، ومع عظم فائدته واستحالة الاستغناء عنه، فإن المرجعية الحقّة إنّما ترجع إلى إحصاء العواقب النافعة. وعلم الرموز والدلالة والألسنيات والسيميائيات، ألقت أضواء نافعة على كيفية حدوث الوقائع، وأسلوب التواصل لنقل المعرفة وتعميمها.
والتمكن من عرض هذا الموضوع بتبسيط مقنع واختصار للجهد والزمن ورفع للمردود غاية تحقيق إنسانية الإنسان وإبراز إمكاناته التي لما تبرز إلى الوجود إلا قليلاً.
وبعد هذه الرؤية التاريخية للوضع الإنساني سأحاول إلقاء بعض ما توصلتُ إليه من الرؤية الدينية للمشكلة الإنسانية من خلال القرآن.
وفي بادئ الأمر ينبغي أن نفصل ونصل أيضاً بين المتعالي الخالق الأعلى، وبين الكون الذي نعيشه، كما فصلنا ووصلنا بين الوجود الكوني والمتعالي، بين الرمز والمرموز إليه ويمكن أن نعتبر الكون كله رمزاً للخالق المتعالي المقدس. ولكن في هذه المرة الأمر بالعكس فإن التعرف على المتعالي يكون بواسطة الكوني، ومن خلاله تحصل لدينا المعرفة بالمتعالي.
الآن سأبدأ التعامل مع نصوص القرآن للتعامل مع الوجود الكوني والإنساني.
وحدة النبوات
من المفيد في أول الأمر أن نعرض فكرة القرآن عن الأنبياء، وأنهم على نموذج واحد، وجاؤوا برسالة واحدة، وان أمتهم واحدة، ونذكر هنا فقرات من القرآن الكريم تدل على ذلك:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] الأعراف: 7/59 [.
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] الأعراف: 7/65 [.
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] الأعراف: 7/73 [.
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] الأعراف: 7/85 [.
(تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ] الأعراف: 7/101 [.
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ] الأعراف: 7/103 [.
وفي القرآن سورة اسمها سورة الأنبياء يقول فيها:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ) ] الأنبياء: 21/48 [.
(وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) ] الأنبياء: 21/50-51 [.
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) ] الأنبياء: 21/72-73[.
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ] الأنبياء: 21/76 [.
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) ] الأنبياء: 21/78 [.
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ] الأنبياء: 21/83 [.
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ) ] الأنبياء: 21/85 [.
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) ] الأنبياء: 21/87 [.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) ] الأنبياء: 21/89 [.
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (المراد مريم وابنها عيسى المسيح) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) ] الأنبياء: 21/90-93 [.
هذه النصوص القرآنية تدل على أن عالم الأنبياء عالم واحد، وجاؤوا برسالة ومفهوم واحد، وأن أمتهم أمة واحدة، وإن اختلفت هذه الأمة الواحدة بعد ذلك وتقطعوا أمرهم بينهم. وفي القرآن سورة اسمها سورة إبراهيم يذكر فيها قصة مجموعة من الأنبياء ويذكر القواسم المشتركة ووحدة الدعوة والهدف الذي يسعون إليه. يقول القرآن في هذه السورة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ] إبراهيم: 14/5 [.
ويقول القرآن في السورة نفسها:
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ] إبراهيم: 14/9 [.
والقرآن وإن يذكر حوار نبي معين مع قومه إلا أنه يجمع الرسل جميعاً ويُنطِقُهم بلسان واحد بجوهر دعوتهم فيقول:
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ. وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) ] إبراهيم: 14/10-12 [.
وكذلك يذكر القرآن سلسلة من الأنبياء:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) ] المؤمنون: 23/23 [.
فيذكر قصة نوح والطوفان ثم يقول:
(ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) ] المؤمنون: 23/31-32 [.
ثم يقول أيضاً مؤكداً وحدة النبوات والرسالات والأمة النبوية:
(ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ. ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنْ الْمُهْلَكِينَ. وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ] المؤمنون: 23/42-53[.
هذه الآيات تدل بتكرار وإلحاح على وحدة الأنبياء ووحدة الرسالة ووحدة أمتهم، وتذكر أيضاً كيف تقطعت هذه الأمة الواحدة وتمزقت، وكيف أن هذه القطع الممزقة فرحون بما لديهم ولا يشعرون أن هذا التمزق بينهم دليل على أنهم فقدوا ما جاء به الأنبياء من توحيد الأمة ووحدة محتوى الرسالة.
وفي سورة الأنعام يذكر قصة إبراهيم وأنبياء كثيرين من بعده فيقول:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ) ] الأنعام: 6/74-75 [، ويتابع القرآن الحوار بين إبراهيم وقومه ثم يقول (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) ] الأنعام: 6/83-90 [.
ويقول القرآن مؤكداً هذه الوحدة النبوية ووحدة الرسالة والأمة:
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ] يونس: 10/13-14 [.
ثم يقول مبتدئاً بنوح:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) ] يونس: 10/71 [.
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) ] يونس: 10/74 [.
وفي سورة هود يذكر نوحاً ويطيل في قصة نوح:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ] هود: 11/25-26 [.
ثم يذكر قوم عاد فيقول:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ..) ] هود: 11/50 [.
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] هود: 11/61 [.
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ..) ] هود: 11/84 [.
ثم يذكر قصة موسى وفرعون:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ) ] هود: 11/96-97 [.
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ] هود: 11/97 [.
ثم يقول القرآن:
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) ] هود: 11/100 [.
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) ] هود: 11/101 [.
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ] هود: 11/102 [.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ] هود: 11/103 [.
الإيمان بجميع الأنبياء
وهكذا يعرض القرآن ظاهرة الأنبياء نموذجاً موحد فهم يشتركون بخصائص معينة لا يجوز أن نفرق بينهم ويمكن اكتشاف خصائصهم. فمن هذا الجانب يفرض القرآن على أتباعه أن يؤمنوا بجميع الأنبياء في آيات عديدة. فمثلاً يقول:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ] البقرة: 2/285 [.
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) ] البقرة: 2/136-137 [.
ويقول أيضاً: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ] آل عمران: 3/84 [.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيماً ] النساء: 4/150-152 [.
الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا
وفي القرآن ظاهرة أخرى فيما يتعلق بالأنبياء، فبعد أن يذكر الأنبياء بالتعيين والأسماء يقول: إنَّ هناك أنبياء لم نذكرهم، وبهذا يفتح القرآن الباب لإمكانية التعرف على أنبياء لم يذكروا في القرآن ويمكن التعرف عليهم بمعرفة خصائص النبوة والأنبياء، وهذا مجال آخر من البحث لتحديد القواسم المشتركة بين الأنبياء لنتعرف على الذين يحملون مثل هذه الخصائص، ويمكن أن أقول ربما سقراط يمكن أن يكون موضع دراسة فيما إذا كان يمكن ضمه إليهم بعد تحديد خصائص النبوة، لما كان يتصف به سقراط من الصدق والأمانة والإصرار على تبليغ ما كان يشعر أنه مكلف بإشاعة ما أُلْهِمَهُ.
كما يمكن عرض أسماء آخرين ليكونوا موضع تأمل وقد يكون سقراط وإبكتوتس مرشحين للبحث فيهم. هذا من جانب الاعتراف بجميع الأنبياء من غير تفريق بينهم سواءً منهم من كان مذكوراً وفي هذا يقول القرآن:
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ] النساء: 163-165 [.
ويقول في هذا الموضوع أيضاً إنَّ الله لم يقص علينا جميع الأنبياء:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) ] غافر: 40/78 [.
والاعتراف برسل لم يرد ذكرهم في القرآن يفتح الباب لرسل تنطبق عليهم مواصفات الرسل ؛ حيث لا يحذف أحد من الرسل من الاعتراف بهم، وهذا منهج وتصور يحذف العنصرية بين البشر ويعترف بكل الدعاة والداعين إلى العدل والإحسان، فيكون هذا أسلوباً ناجحاً لجمع البشرية إلى كلمة سواء من غير أن نبخس مُصلحاً حقه، ويضاف إلى هذا أن القرآن يعترف بأنه لا توجد أمة لا رسول لها، وأن كل الأمم أُرسِلَ لها رسول فيقول:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً..) ] النحل: 16/36 [.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) ] يونس: 10/47 [.
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) ] فاطر: 35/24 [.
(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ] النساء: 4/165 [.
(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ] الإسراء: 17/15 [.
ويمكن أن نقول: إن الاعتراف بوجود رسل لم يرد ذكرهم في كتب الديانات التوحيدية في الفضاء الثقافي الذي أرسل فيه نوح وإبراهيم، يفتح الباب للاعتراف برسل الثقافات الأخرى سواء في الشرق الأقصى، أو في أفريقيا، أو السكان الأصليين في القارة الجديدة. حيث إن الأمم الآن بدأت تبحث عن ثقافتها القديمة لتثبت وجودها وذاتيتها وهذا المنهج يضع البشرية على طريق التوحيد والاعتراف بالقواسم المشتركة بين الأمم ورسلها أيضاً، وهذا الموقف قيمة إيجابية إنسانية للناس جميعاً على سبيل التعاون والتفاهم والاعتراف بهم مشاركين في المسيرة الإنسانية.
كثيراً ما أقول: إن تطلعات الأنبياء لمستقبل البشرية لم تأت إلى حياة البشر، حيث كان مبدأ الأنبياء في أعلى مقاصدهم أن يكون تنافس البشر في فعل الخير، وأن يكون الهدف هو هذا إذا رجعنا إلى الوراء لنكتشف الأسس التي تمكننا من القفز إلى الأمام مثلما يرجع الذي يريد أن يقفز إلى الوراء ليكون قفزه إلى الأمام أكثر قوة، لا أن نرجع إلى الوراء لنبقى هناك. ووسائل الانتقال ينبغي أن تكون لها القدرة على العودة إلى الوراء لا للبقاء هناك ولكن للتكن من المناورة ليكون التقدم إلى الأمام فعالاً أكثر.
فإذا كان البشر لم تكن تتيسر لهم الطاقة إلى الأمام، ويتراجعون ليحولوا التنافس في فعل الخير إلى تنافس في فعل الشر وتسابق إليه، فإن هذا العجز ليس ميزة البشر وإنما القدرة على التجاوز ليستخدموا كل الإمكانات، ليكون التجاوز أسرع وأقل كلفة وأحسن مردوداً. ولنتذكر ما عاناه الذين دعوا إلى أماكن متقدمة في أسلوب استخراج أفضل ما في الإنسان من إمكانيات، فإذا السبل تكاد تكون مغلقة أمام أغلبية الناس، فلنستخرج العبر من التاريخ، من رواد الإبداع ليتحول الإنسان إلى أفضل ما أُبدع فيه من قدرات، وفي هذا يقول القرآن لشد أزر المبدعين:
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ. وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) ] هود: 11/120-122 [.
ويقول القرآن ليثبت الرسل ودعاة الإصلاح فيما يواجهون من عقبات صعبة:
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) ] يوسف: 12/110 [.
وفي القرآن آيات كثيرة تدين التشاؤم، وأن اليأس والقنوط ليسا من صفات المؤمنين وإنما من صفات غير المؤمنين فيقول:
(وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) ] يوسف: 12/87 [.
ويقول:
(قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ. قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ) ] الحجر: 15/55-56 ].
إن تصور العالم أنه مسخر للإنسان وأن الإنسان قادر على حل مشكلات العالم نظرة تفاؤلية، وقيمة حضارية، تبعث على الجد، وهو تصور قرآني، وإن كان يغلب على الناس في مراحل تاريخية معينة روح التشاؤم، يقول القرآن:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ] الجاثية: 45/13 [.
هذه النظرة قرآنية، وإن الإنسان ينبغي أن يجتهد ليعلم سنن الوجود ويتمكن من تسخيرها للصالح العام، فإن لم يفعل ذلك، عليه أن يعلم أن الكون بما فيه الإنسان قابل لتسخيره للخير، فإن لم يفعل ذلك فالأمر لا يرجع إلى الكون، إنه غير قابل للتسخير بل إلى الإنسان الذي عليه أن يستخرج أو يستخدم القوى الكامنة فيه للتسخير.
العلماء ورثة الأنبياء
وهنا أرى أن أتقدم إلى الأمام أيضاً كما فعلنا في الاعتراف بالأنبياء الذين لم تصل إلينا أخبارهم، ويمكن أن نكتشفهم، كذلك يمكن أن نضم إلى الأنبياء صنفاً آخر من البشر، يعانون ما يعانيه الأنبياء من توجيه الناس إلى الخروج من الفساد وسفك الدماء لينشروا العدل والإحسان بين الناس.
فإن القرآن يضع الآمرين بالقسط من الناس في مصاف الأنبياء ؛ حيث يلقّون ما يلقاه الأنبياء من المعارضة والأذى ؛ وسبب ذلك أنهم يأمرون الناس بالقسط، فالأمر بالقسط وإقامة العدل بين الناس مهمة الأنبياء. في القرآن:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ] الحديد: 57/25 [.
وسنرجع إلى توضيح أن أقدس شيء جاء به الأنبياء هو الدعوة إلى قيام القسط بين الناس، ونحاول أن نبين ذلك عند بيان وحدة الرسالة التي جاء بها الأنبياء.
ختم النبوة
ومن هنا يقول القرآن وهو يضم الآمرين بالقسط من الناس إلى الأنبياء، حيث يبين أن العداء الذي يواجه به الأنبياء سببه أمرهم الناس بالقسط، فمن هنا جاء في القرآن:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ] آل عمران: 3/21-22 [.
وكذلك ضم القرآن شهادة الله والملائكة إلى شهادة العلماء القائمين بالقسط:
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ..) ] آل عمران: 3/18 [.
وهنا بانضمام الآمرين بالقسط بين الناس إلى قائمة الأنبياء، بدأ العالم يدخل عهداً جديداً وانتقالاً في أسلوب المعرفة والتلقي عن الله. بل إننا نرى في الآية الأخيرة أنهم يشهدون بالتوحيد الذي هو رسالة الأنبياء. في هذه الآية حذف الأنبياء ووصل بين شهادة الله وشهادة أولي العلم الذين يقومون بالقسط. وإقامة القسط (العدل) هو التوحيد الذي هو رسالة الأنبياء. ولكن هذه النقلة إلى أولي العلم تدلنا على تطور البشر، فكأن ميلاد أولي العلم إيذان بتوقف عهد الأنبياء، وانتقال الشهادة إلى أهل العلم ليتابعوا مهمة إقامة القسط بين الناس من قبل أولي العلم، وهذا ما يعرف في القرآن والإسلام بـ (ختم النبوة) وانتهاء دور الأنبياء، ليبدأ دور العلماء في الدعوة إلى إقامة القسط بين الناس. إن بروز العلم والقسط جعل المثالية واقعية، وجعل الغيب شهادة، وجعل الإلهية بشرية(1)، وجعل الخارق سننية، وجعل التوحيد هو إقامة القسط بين الناس، وبهذا دمج النبوة في العلم، وصار التلقي عن الله علماً، ويحسن أن نشير هنا إلى شيءٍ يتصل بوحدة النبوة، وهو أن الأنبياء كان يصدق بعضهم بعضاً، ويبشرون بالنبي الذي سيأتي بعدهم - كما العلماء - ويأخذ منهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه. فإذا كان الأنبياء فعلوا هذا، فلماذا لا يتواثق أهل العلم بإقامة القسط بين الناس.
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ] آل عمران: 3/81-83 [.
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ] الصف: 61/6 [.
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً. مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ] الأحزاب: ] 33/39-40 [.
فكرة ختم النبوة فكرة تطورية لها أهمية بالغة، إنها تطور في منهجية المعرفة والتلقي ومصدر المعرفة، لها مقدماتها كما لها نتائج بعيدة المدى ومبررات وأسباب لإغلاق باب أسلوب من التلقي، وفتح أسلوب آخر.
فشهادة أولي العلم حين تُقْرَنُ بشهادة الله فهذا إعلان ببلوغ البشر إلى نوع من التلقي، غير التلقي بواسطة الرموز، إلى التلقي بواسطة الأحداث وعواقب التاريخ، فكان هذا إعلان وراثة العلماء لدور الأنبياء.
فإن الأنبياء أسسوا ورسخوا فكرة التوحيد بأسلوب النبوات، وعلى أولي العلم أن يحولوا هذه الفكرة المحورية إلى علم وممارسة عملية، والتسلسل الذي عرضناه من اقتران الأنبياء وأولي العلم ثم ختم النبوة، فيه إلغاء أن يدعي أحد أن له مصدراً خاصاً به للمعرفة لا يتيسر لبقية الناس، وهذا إغلاق أبدي لأسلوب التلقي من الغيب إلى المعرفة العلمية التاريخية البرهانية.
وهذا التسلسل يوصل إلى الخروج من المنهج الخارق اللاسنني للدخول إلى العالم العلمي السنني. يسجل القرآن مطالبة المعاصرين لنزول القرآن بالخارق التي كان يأتي بها الأنبياء سابقاً، فيجيبهم: يكفي هذا الكتاب برهاناً.
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ] العنكبوت: 29/50-51 [.
(وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ..) ] البقرة: 2/118 [.
(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) ] الأنبياء: 21/5 [.
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) ] الإسراء: 17/90-93 [.
الخروج من الخوارق إلى السننية
فكما دخل أولو العلم إلى عالم النبوات وبقاء أهل العلم، كذلك دخلت السننية إلى عالم الخوارق ثم انتهت الخوارق وبقيت السننية.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً..) ] فاطر: 35/43 [.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ..) ] آل عمران: 3/137 [.
يقول: سيروا في الأرض، وانظروا إلى تاريخ الأمم، وانظروا كيف كان عاقبة المكذبين الذين رفضوا القسط بين الناس، وبهذا التوجه في الاستدلال تحول البرهان والمرجعية إلى عواقب التاريخ، وفي هذا التوجه يسوق القرآن تاريخ الأمم السابقة، وعواقب التاريخ هي مرجعية القرآن.
(أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ] الفجر: 89/6-14 [.
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ] الكهف: 18/59 [.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) ] هود: 11/96-103 [.
وإذا كان القرآن يذكر الأمم التي ظلمت وكيف هلكوا، فإن ما حدث للأمم بعد عهد القرآن فيها عِبَرٌ كثيرة لنا. وإن لم تكف تلك الأحداث أيضاً، انتظروا الأحداث القادمة لتتأكدوا: أن قانون الله لا يتغير ولا يتبدل في هلاك الأمم التي تظلم الناس ولا تعدل بينهم.
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ] الكهف: 18/59 [.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ] آل عمران: 3/137 [.
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) ] القصص: 28/58-59 [.
والقرآن مليء بالقوانين التاريخية، وهذا خروج من عهد الخوارق إلى السننية. فكما دخل أولو العلم القائمين بالقسط إلى عالم النبوات، وتحولت النبوات إلى العلم ثم استقلال أولي العلم وانتهاء عهد النبوات، كذلك دخول السننية كان تقدماً في المعرفة الإنسانية ؛ حيث استقلت السننية وخرج الناس من عهد الخوارق إلى التاريخية ورؤية عواقب تاريخ الأمم. وهذا التوجه كان قديماً في كل النبوات، إلا أن استقلال السنن والخروج من الخوارق جاء متأخراً في حياة الناس في كل المجتمعات البشرية، ففي الإنجيل: « احترزوا من الأنبياء الكَذَبة الذين يأتونكم بلباس الحملان ولكنهم من الداخل ذئابٌ خاطفةٌ، من ثمارهم تعرفونهم.. كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، فإذن من ثمارهم تعرفونهم ». متى (7:15-20).
آيات الآفاق والأنفس وارتباطها بآيات الكتاب
محتوى هذه الرسالة إذا أمكننا أن نحدده بدقة، يكون سبباً لحل إشكاليات كثيرة تتعلق بالحياة البشرية أجمع. وعلى هذا نحاول إضاءة النصوص بمعطيات الواقع التاريخي، وقبل ذلك ينبغي أن نشير إلى شيء يساعدنا للدخول إلى هذا البحث، وهو أن القرآن يذكر آيات الآفاق والأنفس مرتبطةً بآيات الكتاب.
وبعبارة أخرى العلامات الرمزية والحقائق الخارجية، حيث لا يمكن الاتصال بالحقائق إلا بواسطة العلامات الرمزية لأن العلامات (الرموز والمرموز إليها) فيها القوانين التي يمكن فهمها والوصول بها إلى تسخيرها باستخراج المنافع وتفادي المضار. فمن هذه الزوايا النظرية يعتبر القرآن الكون وأحداث التاريخ البشري والرموز التي تقرب إلى فهمها، آيات وعلامات لتحقيق تسريع سلطة الإنسان على الوجود، وتعطيه الأمل في الخلود بعد أن بدأ الإنسان في تسخير الوجود وتسخير ذاته فلأصلح، ولهذا يقول القرآن: سنريهم الأدلة على أن هذا الكون وأحداث التاريخ، دليل على صدق العون الإلهي للإنسان ومساعدته على تحقيق الإمكانيات المودعة فيه. وهذا يعني أن ما جاء إلى الأنبياء من السماء وما أكن أن يراه أولو العلم في الأرض يصدق بضعهُ بعضاً. يقول القرآن:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اللآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ] فصلت: 41/53 [.
أي إنَّ دلالات الوجود الطبيعي وأحداث التاريخ البشري تدل على أن ما جاء به الأنبياء حق وتكفي شهادة الله على ذلك ويقول:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ] البقرة: 2/164 [.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ] آل عمران: 3/190-191 [.
وفي سورة الشعراء رقم 26 يذكر أحداث التاريخ ويعقب كل حدث بقوله:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ويكرر هذا ثماني مرات لثمانية أحداثٍ تاريخيةٍ أولها لمشاهد الطبيعة (26/8-9، 67-68، 103-104، 121-122، 139-140، 158-159، 174-175، 190-191).
ويذكر هذه الأحداث التاريخية مفصلة كما في سورة العنكبوت رقم 7 ومختصرة كما في سورة الشعراء رقم 26 وبأسمائهما فقط كما في سورة ق رقم 50.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ] ق: 50/12-14 [.
القرآن يوجز محتوى رسالة الأنبياء جميعاً، ويضغطهما في كلمة واحدة وأحياناً في جملة واحدة من كلمتين، ثم من أكثر من ذلك، ويكون محتوى رسالتهم كلها تحقيق تلك الكلمة الواحدة.
لقد كتب النبي محمد (ص) الذي بلغ القرآن إلى زعماء العالم المعاصر له، رسائل يدعوهم فيها إلى ما جاءته من الرسالة ذكر فيها:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ لاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ] آل عمران: 3/64 [.

كلمة السواء

كلمة السواء هذه هي رسالة الأنبياء جميعاً، وبعد انتهاء النبوات ستبقى رسالتهم هذه، رسالة الآمرين بالقسط بين الناس. فالدعوة إلى المساواة هي رسالة الأنبياء وكل المصلحين من البشر، وعلى قدر تمكنهم من تفهمها وتفهيمها، وعلى قدر التزامهم بها وتمكين الناس من التزامها، يكون قربهم من الله (مغزى الوجود - هدف الوجود) وعلى قدر تكوين أو إيجاد المجتمع السواء، مجتمع المساواة، تكون درجاتهم عند الله.
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) ] المطففين: 83/26 [.
(لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) ] الصافات: 37/61 [.
فهذه الكلمة، كلمة السواء هي الخفيفة والثقيلة معاً، وهي الظاهرة والخفية في آن واحد، وهي التي إذا ظن الإنسان أنه وصل إليها يكتشف أنه ابتعد عنها. عند عتبتها انهارت الحضارات، وعلى عتبتها هلك الهالكون، وأثناء تأملها تبلد ذكاء الإنسان، وربما لا يمكننا الاقتراب منها إلا إذا اعترفنا أننا بعيدون عنها. وفي الإنجيل:
« ادخلوا من الباب الضيق، إنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه » متى (7: 13 - 14).
« هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا ؛ عارف الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد.. ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة » سفر التكوين (3: 21 - 24).
هذا اللهيب للسيف المتقلب لحراسة طريق الصعود الذي في سفر التكوين هو ضيق الباب وكرب الطريق. متى (7: 14).
وهو الذي يقول القرآن عنه: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ] فصلت: 41/35 [.
(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ] فصلت: 41/34-35 [.
(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) ] الرعد: 13/19-22 [.
أن تعطي للآخر مثل ما تعطي لنفسك وأن تمنع نفسك مما تمنع الآخر، هذا هو لب الدين وجوهر الحقيقة، وهدف الأنبياء والمصلحين وأولي العلم. وهذا هو الله، لأن من أسماء الله العدل والحق، وهذا هو المقدس، وهذا ما في القرآن والإنجيل والأسماء والكتب (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) ] آل عمران: 3/64 [.
وفي الإنجيل: « فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا انتم أيضاً بهم. لأن هذا هو الناموس والأسماء » متى (7: 12).
« تقول لأخيك دعني أُخرِجْ القذى من عينيك. يا مرائي أخرج أولاً الخشب من عينيك وحينئذ تبصر جيداً أن تُخْرج القذى من عين أخيك » متى (7: 4 - 5).
وفي القرآن:
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ) ] المطففين: 83/1-9 [.
وفي الإنجيل: « بالكيل الذي تكيلون يُكال لكم » متى (7: 1).
وفي القرآن:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ] البقرة: 2/44 [.
وفي الإنجيل:
« ويلٌ لكم أيها المتبةُ والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان » متى (23: 23).
ولعل هذه المقاربات ترفع مستوانا عن تعشير النعنع والكمون لنلتفت ونأخذ بقوة أثقل الناموس، الحق، الرحمة، الإيمان، ولا نكون من الذين يغصّون عن البعوضة ويبلعون الجمل ولا نكون مثل القبور مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، من خارج تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثماً » متى (23: 29) « ينبغي أن لا تبرد محبتنا لكثرة الإثم » أي ينبغي أن لا تثبط هممنا كثرة المخطئين في الإنجيل « لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ». متى (24: 13 - 14).
وفي القرآن:
(قُلْ لاً يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ] المائدة: 5/100 [.
لخص القرآن مسألة التوحيد في كلمة السواء.
ثم لخص القرآن توحيد الأنبياء جميعاً في جملتين في سورة النحل رقم 16
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ] النحل: 16/36 [.
وفي سورة الأعراف رقم 7 يُنْطِق القرآن الأنبياء بجملةٍ واحدةٍ يكررها الأنبياء جميعاً وهي: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ] الأعراف: 7/59 [.
وعلى هذا فإن كلمة:
1- السواء.
2- وكلمة العدل.
3- وكلمة التقوى.
وفي القرآن (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) ] الفتح: 48/26 [.
وشرح القرآن كلمة السواء بثلاثة شروح، تعالوا إلى كلمةٍ سواءِ بيننا وبينكم. ومعنى السواء أن يكون لك مثل ما لي وعليك مثل ما علي:
4- ألا نعبد إلا الله.
5- ولا نشرك به شيئاً.
6- وألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً.
وكل الرسل بعثوا بـ:
7- اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوتَ.
8- وكلمة الشِّرك ضدُ كلمةٍ السواء.
((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) ] الزمر: 39/65 [.
وكذلك جملة في سورة البقرة رقم 2
9- (لا إكراه في الدِّين)
شرحها بثلاث جمل أيضاً:
10- (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ
11- (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
12- (فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا) ] البقرة: 2/256 [.
13- وهي كلمةُ لا إله إلا الله
والكلمة التي نسبها القرآن إلى كل الأنبياء وأنها رسالتهم (اعبدوُا اللهَ واجتنِبُوا الطاغوتَ) والطاغوت والطغيان وطغى من التسلط وتجاوز الحد والقهر. وقد استعمل القرآن كلمة طغى لفرعون مرات كثيرة. لما ذكر عاد وثمود وفرعون قال:
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) ] الفجر: 89/11-12 [.
وأطول الحوارات في القرآن بين الأنبياء وأقوامهم حوار موسى وفرعون. وقد ورد اسم فرعون في القرآن أكثر من سبعين مرة، وكذلك موسى أكثر من مئة مرة، فالنبي موسى كان نزاعه مع أعظم وأعتى وأطغى الحضارات التي تركت الأهرامات، رمز السلطان، الذي كانوا يملكون، فلهذا إن اسم فرعون لم يعد اسماً لشخص وإنما للطغيان لأنه هو الملك الإله الذي أنطقه القرآن بعبارات تدل على الطغيان والتسلط وتفريق الناس إلى طبقات ؛ يُنطق القرآن فرعون بجمل مختلفة قال: (أنا رَبُّكم الأّعْلى) ] النازعات: 79/24 [.
قال فرعون: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ] القصص: 28/38 [.
(قَالَ: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) ] الشعراء: 26/29 [.
وقال عنه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ) ] القصص: 28/38 [.
وذكرنا ثلاث عشرة آية وجملة لتدل على كلمة السواء وكلمة التوحيد وكلمة اجتنبوا الطاغوت، منها رقم 7 وكذلك رقم 11 (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا) ] البقرة: 2/256 [.
فكما شرح القرآن كلمة السواء بثلاث جمل كل جملةٍ منها معبرة عن المعنى نفسه، كذلك كلمة لا إكراه في الدين بيَّنَها برقم 10-11-12 وسنحاول بيانها فيما بعد.

(لا إكراه في الدين)

والآن نريد أن نوضح أن كلمة لا إكراه في الدين هي الرشد، وأن الإكراه في الدين هو الغي، فالجملة الثانية شرح وبيان للجملة الأولى، فجملة (لا إكراه في الدين) بها تبين الرشد من الغي، فالإكراه هو الغي، واللاإكراه هو الرشد، وكذلك الجملة الثالثة تفسير وبيان للجملتين السابقتين. (فَمَنْ يكفُرْ بالطّاغوتِ) الذي هو الإكراه، ومن يفرض دينه بالإكراه، ومن يؤمن بالله الذي يقرر أنه لا إكراه في دينه وفي الدين كلياً، فمن التزم هذا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نكون قد وصلنا إلى فكرة كبيرة جوهرية، هي أن الدين لا يجوز نشره بالقوة والإكراه والدين هو تفسير الكون، أي الوجود كله بما فيه الإنسان. وعلاقة الإنسان بالوجود وبالناس الآخرين هي المبدأ والمنتهى، وعند هذه النقطة يمكن بحث الدين، أو فكرة الإنسان عن الوجود، والفكرة التي يريدها القرآن من الناس في فهم العالم والتي نرجو أن نتمكن من توضيحها من ناحية النصوص، ومن الناحية البيولوجية التاريخية.
فالإيمان أو الفكرة التي يريدها القرآن من الناس من ناحية الإيمان (بالله) هي أنَّ الله لا يمكن تصوره فهو كما يقرره القرآن:
(لم يَكُن لهُ كفواً أحد) ] الإخلاص: 112/4 [.
(ليس كَمِثْلِهِ شيءٌ) ] الشورى: 42/11 [.
(لا تُدرِكُهُ الأبصارُ) ] الأنعام: 6/103 [.
وهو مغزى الوجود، ومعنى الكون، وبدونه يفقد الوجود معناه، والإيمان بالله هو سِّرُ الوجود، فإذا كانت الكائنات الحية تُخرج سلوكها من بطون أمهاتها ماعدا الإنسان فإن الإنسان يتعلم سلوكه بعد أن يخرج من بطن أمه. إن الإيمان بالله مما يخرجه الإنسان من بطن أمه وليس مما يكسبه بعد ذلك، فإن جينات الإنسان التي تصنع جهازه العصبي هي التي تفرض أن يجعل للكون غاية لأن الإيمان بالله هو أن لا ترى الوجود باطلاً، فهذا النوع من التفسير الواسع يتسع لرؤى متعددة فسيحة.
تناول القرآن هذا الموضوع كما يلي:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) ] آل عمران: 3/190-191 [.
تكفي هذه الفكرة ليكون الإنسان مؤمناً بالله أن لا يرى الكون عبثاً يقول القرآن:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) ] المؤمنون: 23/115-116 [.
إنَّ مغزى الوجود لا يمكن الإمساك به، وإنّما يمكن فهمه فقط ؛ كون العالم له هدف يمكن فهمه من الذرة إلى المجرة، ومن أولى الكائنات الحية إلى الإنسان، يدل أن الكون يتقدم إلى غاية، وليس عبثاً وباطلاً، وليس هو قبض الريح ولا باطل الأباطيل. ومع ذلك فإن الإنسان حين يرى أن الكون لا هدف له، فإن ذلك ينشأ من الرؤية المجزأة التي لا ترى تسلسل الوجود خلال الزمن. بل إن الإنكار لا يتوجه إلى الوجود، ولكن يتوجه إلى الذين يفرضون صورهم الذهنية القاصرة على الآخرين والذين يسميهم القرآن:
(الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) ] يونس: 10/60 [.
(يَصُدَّونَ عن سَبِيلِ الله) ] التوبة: 9/34 [.
إن كثيراً من صور الناس الذهنية عبث جدير بالرفض، وحين يختلط هذا العبث بالجلال والجمال الوجودي تغلب النظرة القاصرة المنقطعة، وحتى حين ينكرون بألسنتهم أن يكون للوجود هدف، فإنهم يُكذِّبون بسلوكهم دعواهم.
لقد زارني شخص من هؤلاء فلما أفاد أن الوجود عبث قلت له: لو كان ما تقول حقاً وأنت مقتنع به لما زرتني، ولما بحثت معي، ولكن سعيك هذا ينبئ عن شيء هو إيمانك بِحَقٍ تبحث عنه، إن وجود أسماء مبجلة تحمل مثل هذه الأفكار يجعل كثيراً من الناس يفقدون الهدف من الحياة، والأمل في العثور على معنى الوجود، بينما هذا السعي موجود في جينات الإنسان، لأن جهازه العصبي الذي تصنعه الجينات لا يفقد هذا الهدف، والكائنات البشرية تتدفق من الأرحام وهي تحمل حب الاستطلاع بكل تحد لكل عبث.
ويعبر القرآن عن أن الإيمان يولد مع الإنسان وليس مما يكتسبه بعد الولادة، إذْ الإيمان بمعنى الوجود فطرة، يقول القرآن في هذا:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ] الأعراف: 7/172 [.
إن العدل وكلمة السواء ليست عدمية، لأن العدل للإنسان ليس عبثاً ولا عدمياً ولا باطلاً بل محاولة إخفاء ذلك أو عدم رؤيته من خلال التاريخ هو العبث، نعم يمكن أن ييئس الناس من طول الحياة العابثة التي يعيشونها ولكن الحياة لا تضيع هدفها.
« ولِكَثرةِ الإثْم تبرُد المحبةُ » متى (23: 12).
ولكن لا تموت المحبة والشوق إلى المعرفة التي ينشأ منها الحب.
قانون النسخ
التاريخ يفرض الهدف والمعنى، لأن الشيء بدون تاريخ يمكن أن يكون منقطعاً وعبثاً، ولكن التاريخ هو رؤية الحاضر مع الماضي والمستقبل، وكل من أمكن أن يرى هذا بوضوح فهو في صلاة وقداسة، ومنغمس في الوجود ومنجذب ومدفوع ليحقق الأفضل.
إن الإنسان عنده استعداد أن يبذل نفسه وماله في سبيل تحقيق ذاته، وشوقه إلى تحقيق ذاته لهيب لا ينطفئ. يمكن أن يخطئ الإنسان في فهم حركة الشمس، ولكنه متمكن من أن يصحح خطأه، ومكن أن لا يكرر الخطأ، ويتجاوز الخطأ، والتاريخ يعلمنا هذا. إنه أستاذ صبور، والأنبياء أيضاً تلميذٌ نجيبٌ، وكفءٌ لأن يفهم درس التاريخ وتعاليمه، وهو في النهاية يستجيب لنداء التاريخ ويتقدم إلى الأفضل، إلى الاقتصاد والاستثمار، والأنبياء يكشف قدرته خلال التاريخ.
ويمكن أن نلمح في الإنسان أن استخراج أفضل ما فيه ليس بقهره وإكراهه، إنه يملك شوق المعرفة، وعلينا أن نكون حاذقين في استثمار هذا الشوق، والتاريخ يقدم لنا نماذج من هذا الاستثمار. التاريخ ضد التبذير وضد تضييع الوقت ولا يضيع التاريخ هذا الهدف وهو دائماً في تقدم إليه. ينبغي أن نفهم هذا من تاريخ الوجود، هذا الذي اقتبسنا تسميته من القرآن حين قال:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ] فصلت: 41/53 [.
آيات الآفاق والإنسان تفصح عن الحق الكامن فيه، تراود ذكاء الإنسان وتغري الإنسان أن يقوم بدوره في اختصار الزمن والوصول إلى أفضل مردود بأقل زمن وجهد، إنه قانون كبير في القرآن: إن ما يميز الحق من الباطل هو:
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ] الرعد: 13/17 [.
هذا هو قانون التاريخ وهدفه الذي لم يتوقف خلال التاريخ كله، وهو أن الأنفع للناس وليس لبعضهم فقط، هو الذي سيبقى في الأرض، وهذا القانون هو المرجع الفاصل القاطع الذي لا يرحم المتخلف عنه ؛ إنه سينسخه ويحوله إلى جفاء.
والأنفع للناس ينسخ الأقل نفعاً، سواء في التقنيات أو الصور الذهنية، وهذا القانون يكرره القرآن ويقول:
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ] البقرة: 2/106 [.
ويؤكد القرآن هذا القانون في الحوار الذي جرى بين إبراهيم وقومه:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ. قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) ] الشعراء: 26/69-74 [.
إن إبراهيم في حواره هذا يطالب بالمردود، بالنفع الذي يحصلون عليه من هذا الاعتقاد أو السلوك، وبهذا يمكن أن نعتبر إبراهيم هو (البراجماتي) الأول، على أساس النفع العام وليس النفع الخاص فقط، بينما قومه لا ينظرون إلى الموضوع على هذا الأساس بل ينظرون على أساس أن آباءهم هكذا كانوا يفعلون، والقرآن يبني أحكامه على أساس العواقب النافعة في الحرام والحلال، فقد ذكر في سبب تحريم الخمر أن ضرره أكبر من نفعه فقال:
(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ] البقرة: 2/219 [.
ويذكر هذا السبب بالذات في موضوع التحليل والتحريم فيقول:
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ] الأعراف: 7/157 [.
والقرآن حين يعتبر التوحيد رسالة جميع الأنبياء وجميع أولي العلم وجميع الآمرين بالقسط من الناس، يقول على لسان الأنبياء جميعاً:
(يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ) ] الأعراف: 7/73 [.
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ] النحل: 16/36 [.
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) ] آل عمران: 3/64 [.
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ) ] آل عمران: 3/18 [.
هنا نجد أن رسالة الأنبياء، تحول المسألة اللاهوتية الميتافيزيكية إلى مسألة اجتماعية سياسية في الصميم. وينبغي أن ننتبه إلى هذا الانتقال والتحول باهتمام حتى لا يكون انفصال بين المقدس والدنيوي، بين الإلهي والبشري، بين الدنيا والآخرة.
فكيف نفهم ونؤكد أن المسألة الدينية هي المسألة الدنيوية ؟. إن الأنبياء ربطوا المسألة الدينية بالمسألة الاجتماعية السياسية، ليعطوا لمسألة العدالة قوة أكبر، ولكن التاريخ يعلمنا أن مشكلة الإنسان مشكلة رفض المساواة وبمصطلح القرآن (كَلَمةٍ سواءٍ) ] آل عمران: 3/64 [.
إن الذي يرفض كلمة السواء يكون قد وضع نفسه فوق البشر وجعل نفسه إلهاً متعالياً مقدساً يُنْطِقُ الله في القرآن فرعون بهذا التعالي والتأله.
قال فرعون: (أَنا رَبُّكُم الأَعَلى) ] النازعات: 79/24 [.
وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ] القصص: 28/38 [.
وقال: (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) ] الشعراء: 26/29 [.
وهدد فرعون للسحرة الذين آمنوا بموسى.
وقال: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) ] طه: 20/71 [.
وفي حوار إبراهيم مع فرعون عصره:
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ] البقرة: 2/258 [.
فلهذا كانت رسالة الأنبياء جميعاً هي الدخول في عبادة الله والخروج من طاعة الطاغوت (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ] النحل: 16/36 [، ادخلوا في طاعة الله واجتنبوا الطاغوت، وإلى يومنا هذا، فالمشكلة هي نفس المشكلة حيث بعض البشر لا يقبلون كلمة السواء، وبعض البشر يقبلون طاعة الذين يرفضون كلمة السواء، وبعبارة أخرى، بعض البشر يؤلهون أنفسهم، وبعض البشر يقبلون هذا التأله ولا يرفضونه. إن رسالة الأنبياء كَسَرت هذه العلاقة، وفَرَضت الخروج من هذه الازدواجية التي تتكرر، ويكون ذلك بتبادل المواقع، مستكبرون ومستضعفون، والعلاقة بينهما عنيفة، علاقة قوة قهرية، قوي يفرض ألوهيته بالقوة وضعيف يخضع للقوة، شريعة القوة هي شريعة الغابة، شريعة الكائنات قبل الإنسان. وعند هذه المشكلة وصلنا إلى لب العلاقة بين الدين والقانون (اسم وعنوان مجلة الحقوقيين في أمريكا).
إن إضاءة هذه العلاقة وإزالة اللبس فيها لها أهمية لحل المشكلة الإنسانية أو وضعها في طريق الحل، والأسماء جاؤوا لحل هذه المشكلة، والتاريخ يقدم أيضاً حله، فإذا أمكن جعل التعاون بين الحلين، ونكون قد أعطينا قوة دافعة للحركة الإنسانية لحل معضلتها الكبيرة ومرض الحضارات كلها، وشفائها من الفصام النفسي وقد قرب ميلاد المعافاة والخروج من الأزمة، كيف سنجعل علاقة بناءةً وشفاءً للقلوب، وليست علاقة معاناة وهدم وإعاقة ؟ نعم مهما كان فهم الموضوع صعباً فإن التقدم والتطور متسارع.
يصف المسيح، صعوبة الطريق الذي يؤدي إلى الحياة إذ يقول: « ما أضيق البابَ وأكربَ الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ».
المسألة ليست مسألة لاهوت وإنسان، بل المسألة اجتماعية، ظلم وعدل، مساواة وامتيازات، آلهة أرضية ترابية وعبيد يستعبدهم جَهلُهُم، ومعلمون غير واثقين من علمهم، لا يقومون بتلقيح عقول الناس بالمعرفة فيعطونهم المناعة من الاستعباد. إنَّ الأمر كما قال عيسى عليه السلام: « إذا كان النورُ الذي فيك ظلاماً فالظلامَ فيكَ كم يكون ».
يمكن أن نقول إن المشكلة ليست في الطواغيت المستبدين والعبيد المستذلين، بل في المعلمين (أولو العلم) المستقيلين المتبلدين، الذين لا يثقون بقوة ما عندهم، أو الذين يخافون من قوة الجسد ولا يعرفون قيمة قوة المعرفة. هل يمكن أن نقول بلغة العصر: إن المشكلة مشكلة مثقفين وليست مشكلة السياسيين ؟ هل حقاً بدأ المثقف يطرح المشكلة بهذا المستوى حين بدأ يتحدث كالغشيم(1) عن (المعرفة والسلطة)، هل لنا حق ببحث هذه المشكلات ؟ هل لنا حق في إزعاج راحة المثقفين الذين يبرؤون أنفسهم بإلقاء اللوم على السياسيين الذين يخدمون أصحاب الأموال، وعلى الناس العاديين الذين يجهلون حركة الآلة الاجتماعية، وعلى المسيطرين على الإعلام الذي يسد منافذ الفهم عند الناس، وعلى إقناعهم بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فعلى من تقع المسؤولية ؟ وهل يمكن أن تكون هناك مسؤولية بدون سلطة ؟ وما السلطة ؟ وكيف كانت السلطة خلال التاريخ ؟ هل يمكن أن أقول مُذَكِّراً بما بدأت به هذه المقالة من أن تطور الجهاز العصبي عند الإنسان، وإمكانية نقل الخبرة بالرمز، أوجد في الأرض نائب الله أو خليفة الله الذي يمكن بواسطته أن يتدخل الإنسان بقدرته على المعرفة في صنع مصيره، في سفر التكوين حين تحدث عن خلق آدم:
« وقال الرب الإلهُ هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخيرَ والشرَ » تكوين (3: 23).
إنه أكل من شجرة المعرفة إنه يريد أن يأكل من شجرة الحياة، يريد الحياة إلى الأبد والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد (ولهيب سيف متقلب لحراسة شجرة الحياة) هذا الذي قال عنه عيسى عليه السلام:
« ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة » متى (7-14).
انتقال السلطة من الجهاز العضلي إلى الجهاز العصبي
إن تطور الجهاز العصبي عند الإنسان أوجد قدرة جديدة وسلطة جديدة، « أنا الفهم لي القدرة » وفي الإنجيل: « تعرفون الحق والحق يحرركم » يوحنا (8: 32).
سلطة الإنسان انتقلت من الجهاز العضلي إلى الجهاز العصبي، أي جهاز خزن المعلومات والخبرات. أنا المثقف أنا القوة، أنا السلطة، « أنا الفهم لي القدرة » أمثال (8: 14).
ولكن إلى الآن لم نفهم بعدُ هذه النقلة الكبيرة، إن التطور البيولوجي في الجهاز العصبي أدى إلى تحول القدرة إلى هناك، حيث صارت السلطة، ولكن ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يوصل إلى فهم هذا الانتقال. يمكن أن نفهم قول عيسى عليه السلام حين يقول: « ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة » أي إلى الفهم والإدراك وانتقال السلطة من العضلات إلى الجهاز العصبي، حتى إن مشكلة (المرأة) في العالم لا تزال مرتبطة بعدم إدراك هذا التطور البيولوجي العصبي، وكذلك كل علاقات القوة في العالم: بين الكبار والصغار (الأطفال والبالغين) الرجال والنساء، عالم الكبار وعالم الصغار، مالكي القنابل النووية والمحرومين منها، مالكي حق (الفيتو) والممنوعين منه. نعم أن يكون فهمُ انتقال السلطة من العضلات من الأنياب والأظافر إلى وعي الإنسان صعباً ومكرباً، يمكن فهمه في زمن عيسى عليه السلام، أما أم يظل هذا اجهل والوهم والسحر مسيطراً على العالم المعاصر أيضاً، فإنه شيءٌ يدعو إلى الحيرة والعجب، بل حين نفهم ذلك تصيبنا صدمة، وقليلون هم الذين يستفيقون من الصدمة، بل يشعر الإنسان أنه يفقد إمكانية الحوار، حيث لا يوجد حوار وغنما مناجاة الإنسان لنفسه، حوار بينه وبين التاريخ (الأحداث) أما الحوار بينه وبين الناس فمنقطعٌ، وأنا أشعر بذلك منذ أكثر من ثلث قرن، والآن سنحت لي الفرصة لأذكر أحلامي ومناجاتي الذاتية في (مجلة القانون والدين في أمريكا) بلد الحرية، حرية فِرْعَوْن حين كان يقول للعالم كما يعرضه القرآن فيقول:
(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) ] غافر: 40/29 [.
ويقول فرعون أيضاً لملئه عن موسى ودعوته:
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) ] غافر: 40/26 [.
إن طريق فرعون هو طريق الرشاد حسب فهمه، وأن موسى ينبغي أن يُقتل ويُخشى من موسى أن يبدل دينكم وعالمكم، وإن في الأرض الفساد، حيث أن طريقتنا هي الصلاح وهي الطريقة المثلى، والمساواة من دون مساواة.
وفي القرآن حوار طويل بين موسى وهارون، وفرعون وملئه، يقول الله لموسى بعد تمهيد وتدريب على اللقاء مع فرعون، لموسى وأخيه هارون:
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى. قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى. قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى. ….. قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى …) ] طه: 20/42-52 و 57-58 [.
فتشاور فرعون مع ملئه في شأن موسى:
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى. قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى) ] طه: 20/62-64 [.
إننا لا نريد أن نحقر ونضع من قيمة (أمريكا) بلد الحرية والقانون، بالمقارنة التي نجريها هنا بين حضارة (أمريكا) وحضارة مصر القديمة، فقط نريد التنبيه إلى شيء واحد وهو أن السلطة لا تزال للقوة، وأن الثقة لقوة العضلات، والأظافر، والأنياب، والقنابل، وأن العالم الذي نعيش فيه لا يزال غير قادر على الثقة بالأفكار، إلى الآن ليس للقانون رصيد ومرجع غير القوة العُنفية. إلى الآن لم تتصدر قوة الفكر والقانون، ولم تخرج من قانون العنف وشريعة الغاب، ولم نستطع أن نضع ثقتنا بقوة الجهاز العصبي، بقوة الأفكار، لا تزال ثقتنا بالعضلات وتطوراتها، لا بالدماغ والقوة الفكرية وتطوراتها، إننا لا نريد أن ندين .






آخر تعديل المحامي عارف الشعَّال يوم 20-10-2009 في 08:35 AM.
رد مع اقتباس
قديم 15-06-2006, 10:01 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الدكتور جودت سعيد
إحصائية العضو






آخر مواضيعي



افتراضي تتمة

الدين و القانون 2


ما الدين ؟ وما القانون ؟
ماذا سنكتب في (مجلة الدين والقانون) في أمريكا ؟ ابن الله الوحيد والمخلص الذي يجلس في المتكأ الأول في العالم، إننا لا يمكن أن نفهم الدين ولا القانون إلا إذا فهمنا طبيعة الإنسان.لا بد من أن نؤمن بأن الإنسان يمكن أن يعرف الخير والشر والنافع والضار. ومن لم يصدق فليقف تحت الحمام البارد والدافئ ليميز الخير من الشر، ويوقن أن هناك شيء اسمه الحق المبين. يقول القرآن:
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) ] فاطر: 35/19- 22 [.
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ] فصلت: 41/34 [.

الإنسان وعاء نضع فيه الثقافة والدين والقانون والخير والشر، وما لم نعترف بهذا لا يمكن الخروج من الفساد وسفك الدماء، ولا يمكن أن نعترف بالمسؤولية عن الخطأ الذي نرتكبه كما اعترف آدم، بل سنبقى على ملة الشيطان، ونقول لرب العالمين أنت الذي فعلت الشر، هل سنبقى في ملة الشيطان ؟ الناموس والأسماء وألو العلم يقولون:
(قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) ] الأعراف: 7/89 [.
كل البشر يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ولا يحملون لا لغة ولا ثقافة، كل شيء يدخل إليهم من مصنوعاتنا، يقول القرآن:
(أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ش النحل: 16/78 [.

ما هو الدين ؟ وما هو القانون ؟ بحسب الدين كما أفهم، الخلاص في الدنيا والخلاص في الآخرة لمن يؤمن به بحسب ما بعث الله من رسل، وأنزل من كتب، وخلق من وجود، حسب ما أفهم، الخلاص - في هذا كله أن لا نكون أداة للشر، أن أقبل الخير وأرفض الشر، أن أتعاون على الخير وأن لا أتعاون مع الشر:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ] المائدة: 5/2 [.
وفي الإنجيل: « الحق والحق أقول لكم: إن كل من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة » يوحنا (8: 34).

يوصينا الناموس والأسماء، أن لا نتعاون مع الشر وأن لا نكون عبيداً للشر، أن لا نكون عبيداً للخطيئة. الخلاص في أن لا نتعاون مع الشر، وأن لا نكون أداة عبيداً للشر، لا أن نقتل الشرير، لأن قتل الشرير مثل كسر الكأس بدل غسله وإعادة تنظيفه، معذرة لتبسيط الأمور، هل نقطع اليد إذا تلوثت أن ننظفها ونغسلها ؟ وهل نقطع الرأس إذا طرأ عليه التلوث ؟ إذا كان أسلوب طبيبنا في العلاج هو قتل المريض بدلاً من علاجه، وإذا كان أسلوب مثقفنا في العلاج، هو تزيين قتل الجاهلين بدل تعليمهم وترشيدهم، إذا كنتَ لا تضيء وإذا كنتُ لا أُضيء، فكيف سيأتي الضياء ؟

وإذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون ؟ يصف عيسى عليه السلام مثقفي عصره بأوصاف كثيرة، منها:
« أنهم يُحبون المتكأ الأول في الولائم.. وأن يدعوهم الناس، سيدي سيدي ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلاً واحداً، ومتى حصل تصنعونه ابناً لجهنم أكثر منكم مضاعفاً » متى (23: 6-15).

المشكلة ليست في السياسي، بل فالمثقف، ملح الأرض، صانع الثقافة التي تصنع الأمة بكل مؤسساتها، ينبغي أن لا نخطئ في الفهم، وعلينا أن نتحمل المسؤولية. السياسي أداة المثقف وليس العكس، إن لم نكشف هذا نكون كالشيطان نبرّئ أنفسنا ونتهم الآخر، الفهم وظيفة المثقف، الفهم والتفهيم، مسؤولية المثقف، فإذا عجزنا عن الفهم والتفهيم، فمن نلوم ؟ علينا ألّ نلوم أحداً إلا أنفسنا. يقول النبي محمد (ص): « من وَجد خيراً فليحمد الله، ومن وجَدَ غير ذلكَ فلا يلومَنَّ إلا نفسَه ».
(مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) ] النساء: 4/79 [.
حين نفهم هذا نصل إلى حالة من الراحة النفسية والسعادة التي لا يمكن أن نجدها من يدين الآخرين ويبرئ نفسه، وقد يكون وصل إلى ما يسمى (النرفانا) في الفلسفة الهندية، وبلغة القرآن الوصول إلى (القلب السليم)، وأن لا يبقى في القلب كراهية لأحد. (يَوْمَلا يَنْفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ] الشعراء: 26/88-89 [.

المشكلة في سلامة القلب، في سلامة المفهوم الذي في القلب ؛ السلام يبدأ من المفهوم السليم من المعرفة الصحيحة. « تعرفون الحق والحق يحرركم » يوحنا (8: 32).
بالمعرفة الصحيحة تحصل الطمأنينة في القلب. (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ] الرعد: 13/28 [.

حينما تحصل المعرفة في القلب، يحل السلام في القلب، ويظهر ذلك في اللسان فيسلم اللسان عن ذكر السيئات، ويكف اليد عن الأذى، وتصير كيد ابن آدم:
(لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ] المائدة: 5/28 [.
فكأنه يقول: إنني دخلت إلى مرحلةٍ يمكن فيها أن أفهم بالكلام، وأن أقوم بعملية التفهيم، وبذلك خرجت من العنف إلى السلام، ومن عالم الحيوان إلى عالم الإنسان، فإن لم أتمكن من الفهم والتفهيم، فلن ألوم أحداً ولن أحاول قتل أحد، وإنما سألوم نفسي، وسأبذل الجهد لأصل إلى تحصيل المعرفة، ونقل المعرفة بالأسلوب المتطور، وسأدرب نفسي على التزام هذا من جانب واحد، وقد قال لي ربي أن ألتزم هذا:
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) ] الفتح: 48/26 [.
هذا هو الدين بكل الإيجاز. فما هو القانون ؟ هو الذي يبين المحرمات والواجبات، القانون يتولد تلقائياً حين يلتقي الناس، فإذا حدث أن دخل إنسان كهفاً وليس فيه أحد، يباح له أن يجلس في أي مكان شاء، ولكن إذا كان فيه أحد من البشر، لا يمكن أن يجلس في المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيحرم عليه هذا المكان الذي يجلس فيه الآخر، فيكون تولد الحرام تلقائياً، الأطفال وهم يلعبون يضعون قانوناً للعبة يلتزم به الطرفان، وحين يحدث خرق للقانون ويريد البعض أن يجلسوا على ظهور الآخرين، هنا ينبغي أن يتدخل الوعي الإنساني الاجتماعي لوضع حد لانتهاك المحرم، وعندئذٍ تبرز مشكلة القانون في أعمق مستوياته، لأن القانون يفترض التزام الأطراف لحماية الأفراد الذين يقع عليه العدوان. والقانون بمجرد التفكير فيه، يتولد منه تلقائياً، إلغاء العنف، وإعلان الخروج من العنف، وحل المشكلات من دون لجوء إلى العنف، فمن لا يقبل ترك العنف، لا يمكن أن يدخل في عالم القانون.
والدخول إلى القانون طوعي، لا يكون القانون قانوناً، إن لم يطبق على كل الذين يدخلون فيه، المشكلة ليست في قسوة القانون أو لينه، المشكلة أن لا يخرج أحد على القانون وأن لا يُنْقَضَ الميثاق، لأن قسوة القانون ولينه يمكن التدخل فيها باتفاق الداخلين فيه، والأنفس تطبيقه على بعض وعدم تطبيقه على آخر فهذا الظلم الذي على أساسه هلاك المجتمعات.
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) ] القصص: 28/59 [.
معنى القانون حماية الأفراد الذين يدخلون فيه، لقد تنازلوا للقانون، كي يحميهم وتنازلوا عن أن يلجؤوا هم لحماية أنفسهم، هذا هو معنى أن يعيش الإنسان في مجتمع، أن يحمي المجتمع الأفراد الذين ينتمون إليه، ويفصل بينهم بالعدل، وإذا تخلى المجتمع عن حماية أفراده يكون المجتمع رجع إلى شريعة الغاب. ولن يوجد قانون في مكان يعتمد فيه الناس على قوتهم، وليس على قوة القانون والمجتمع. إذن القانون هو إيقاف العنف ليكون الحل بالسلم، ولن تحل الديمقراطية في مكان يعتمد فيه الناس على قوتهم الخاصة، أو يوجد فيه أناس يؤمنون بأن القوة التي عندهم هي التي ستحميهم، وليست قوة القانون وقوة الفهم. والخلاصة: حيث تسيطر القوة الجسدية فلا شريعة ولا قانون، وحيث يسيطر العلم والفهم تكون الشريعة والقانون، ولا سلطان للجسد. إذن هل السلطة للمعرفة، للجهاز العصبي أم للجهاز العضلي ؟ هذا هو الفيصل بين مجتمع العنف واللاعنف، بين اللاشرعية والشرعية.
القانون والعنف ينفي أحدهما الآخر، لا قانون حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث يوجد القانون. قد يكون فهم هذا صعباً، ولكن فهم الديمقراطية يقرب من فهم هذا الموضوع الغائم والمضيء في آن واحد حسب مستوى المُتَناول لهذا الموضوع. إن الديمقراطية هي حل المشكلات من دون عنف، وخاصة المشكلات السياسية ؛ لأنه حيث تحل المشكلات بالعنف فلا ديمقراطية، وحيث توجد الديمقراطية لا تحل المشكلات بالعنف. إذا وجد القانون يغيب العنف، وإذا وجد العنف يغيب القانون. علينا أن نجتهد كثيراً حتى يصير هذا الشيء - الذي هو واضح وخفي في آن واحد - واضحاً ويزول عنه الخفاء الذي يغفله، بحيث يتحول إلى واضح وبدهي، وعلينا أن نتذكر لنتمكن من فهم الوضوح والخفاء موضوع الشمس، كم كان فهم حركة الشمس خفياً على الناس جميعاً ؟ إن أوضح شيء في الوجود كان أبعد شيء عن الإدراك، فكما تخفى علينا في لحظات ضياع المقياس، أي القطارين هو الذي يتحرك في المحطة، كذلك يخفى علينا منشأ الحركة بين العنف والقانون، بين العضلات والجهاز العصبي، لقد ضرب القرآن مثلاً في حركة الظل على خفاء مفهوم الحركة، وكذلك ذكر القرآن كيف ينخدع الإنسان بصوره الذهنية (أهوائه) ويتخذها إلهاً، وكأن صورته الذهنية هي الحقيقة الحقيقية، ويشبههم القرآن بالأنعام بل أضل سبيلاً، لأن الأنعام تسير حسب غرائزها لا حسب معرفة الخير والشر، فالإنسان الذي صار عارفاً الخير من الشر إذا تخلى عن ذلك يفسد أكثر من الأنعام، ثم يضرب مثلاً بحركة الظل، وكيف لنا أيضاً على أن صورنا الذهنية تخطئ في فهم أوضح شيء وهو الشمس، إلا أن خطأنا في الفهم لن يغير نظام الفلك، ونحن الذين سنتغير. وكذلك لن تتغير علاقة القانون والعنف، حين نتوهم أننا لن نستطيع أن نعيش دون عنف.
إن الذي يجهل تاريخ تطور المعرفة، هو الذي يمكن أن يتخذ إلهه هواه (صورة الذهنية). ولكن التاريخ وعواقبه هو الذي يكشف خطأ صورنا الذهنية، إن تاريخ المعرفة هو الشفاء من أن يتخذ الإنسان فهمه إلهاً. حين أعلنوا في الغرب عن موت الله على يد الإنسان، ثم مات الإنسان بعد ذلك، يمكن القول بأن الله والأنبياء اللذين كانا في أذهانهم ماتا فعلاً، ووصلوا إلى العدمية مرة أخرى، وسبب موت الله والأنبياء هو غياب التاريخ، إن التاريخ سيبعث الله وسيبعث الإنسان.
إلى الآن الفريسيون والصدوقيون، الذين يؤمنون بالله والآخرة على أساس صورتهم الذهنية، والذين لا يؤمنون، لا يستطيعون أن يفسروا يقظة الحياة الدينية في الشعوب. إن الإنسان لا يمكن أن يعيش على علف العلمانيين والمتدينيين المزيفين. إن سلوك البشر وصورهم الذهنية القاصرة والجهل بتاريخ المعرفة، يمكن أن يخفي قدسية الجهاز العصبي الذي عبئ بالعنف والباطل، يمكن أن ينخدع الناسُ بعض الوقت في أن العالم والأنبياء بالطلٌ، ولكن التاريخ الدائم سيتغلب على الفساد الطارئ المؤقت، إن العالم لن يفسد إذا تصورناه فاسداً:
(وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) ] المؤمنون: 23/71 [.
(أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً. أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ] الفرقان: 25/43-45 [.
إن الدين والقانون ينبغي أن لا يتأسسا على أهواء الناس، أي صورهم الذهنية عن الدين والأنبياء بل ينبغي أن توزن هذه الصور والأهواء بميزان تاريخ المعرفة الذي يحكمه قانون:
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ] الرعد: 13/17 [.
بالتاريخ صار الإنسان عارفاً الخير والشر، النافع والضار، الحق والباطل، وهذه المعرفة ستزداد على مر الزمن، إن ديننا وثقافتنا لم يُبنيا على أسس متينة. إن المؤسسات الدينية والأمم المتحدة أعلى مؤسسة سياسية عالمية يسمونها شرعية دولية مبنية على إلغاء الدين، وإلغاء القانون وعلى عبادة القوة، عبادة العجل الذهني والمثال على ذلك. إن حق (الفيتو) عارٌ على المثقفين الصامتين إنها ثمرة غرس المثقفين في العالم شاؤوا أم أبوا، هذا ما قدمته أيدهم، من هنا نعلم إلى أي درجةٍ فسادُ التُرْبَة، وفساد الغرسة التي غرسها المثقفُ حيث كانت ثمرتها: (المؤسسة المعاقة) ثمرة غراس ثقافة القرن العشرين.
إذا كان المسيح عليه السلام يقول واضعاً لنا ميزاناً لمعرفة الخير من الشر، ولتمييز الأنبياء الصادقين عن الذئاب الخاطفة « من ثمارهم تعرفونهم » هل يمكن أن نعرف من هذه الثمرة ضعف الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الفجة التي تُعَقِّدُ المشكلات ولا تحلها ؟ إن الحق (الفيتو) هو دين فرعون وقانونه حيث يقول: (أنا رَبُّكُم الأعَلى) ] النازعات: 79/24 [.
ويقول: (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) ش الشعراء: 26/29 [.
ويقول أيضاً: (فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) ] طه: 20/71 [.
إن (الفيتو) إلغاء لكلمة السواء، ولكلمة العدل وللقانون ولحقوق الإنسان وللديمقراطية، وهو الفساد الأكبر في العالم المُحبَطِ المعاق، والذي يبقي الفساد في الأرض ويحول دون تحول الأمم المتحدة إلى ديمقراطية.
في المنطقة التي قضيت فيها طفولتي كان آباؤنا إذا تخلف حيوان عن القطيع في المساء يعقدون تعويذة ليربطوا أفواه الذئاب بالتعويذة حتى لا تتمكن من أن تفترس الذئابُ الحيوان الضال المتخلف عن القطيع. لا أعلم أثر التعويذة في ربط أفواه الذئاب ولكن أعلم جيداً أن تعويذة مثقفي القرن العشرين ربطت أفواه الناس بتعاويذهم، بحيث لم يتمكن أحد منهم أن يبذل جهداً مزعجاً لسدنة مؤسسة (الفيتو) ؛ إن مثقفينا ليس فيهم إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، إن المسيح صدق موسى والتوراة ولكن كذب أتباع موسى المعاصرين للمسيح، ومحمد (ص) صدق موسى والتوراة وعيسى والإنجيل ولكن كذب اليهود والنصارى، ولو كان يمكن أن يأتي نبيٌ، لصدق موسى والتوراة، والمسيح والإنجيل، ومحمد والقرآن وكذب كل أتباعهم، نحن في فترة من غياب المثقفين الشهداء بالحق. إن أتباع الأديان ينتظرون عودة (المخلص) ولسنا في حاجة أن يعودوا، ولن يرجع (ألعازر) وعلى الذين يعلَمون تاريخ المعرفة، أن يُحْيُوا مرة أخرى دعوة الأنبياء. وإلى الآن لا يوجد كمٌ من المثقفين - لا أبحث الكيف - لهم وزنهم ويمكنهم أن يميزوا المسيح عن الكنسية ولا القرآن عن تفاسير المسلمين، إن مثقفينا لا يزاولون يصرون على أن يرموا بالطفل مع ماء الغسيل كما وصفهم بحق صاحب كتاب: (معالم تاريخ الإنسانية). ويقال إن غاندي دعي إلى لقاءٍ لبحث حقوق الإنسان، فقال لهم: إذا التقيتم لبحث واجبات الإنسان سأحضر.
السلام العالمي
إن الأنبياء هم الذين علموا الناس واجباتهم، وعلى المثقفين أن يأخذوا بيد اليقظة الدينية في العالم، وأن يقوموا بأعمال تليق بالتوبة، لأن العالم وصل إلى مرحلة ميلاد ديمقراطية عالمية، والاعتراف بالمساواة بين جميع البشر. ينبغي أن نستجيب لنداء العالم، لنداء التاريخ للدخول إلى تاريخ الإنسانية الجديد. إن أربعة أخماس العالم يتململون والخمس الآخر في توجس ؛ لأنَّ ورقة الأمم المتحدة لا تستر عورة الإنسانية بل تفضحها، إذا كانت عبة الأمم غير مأسوف عليها والأمم المتحدة الحالية نشأتا بعد حربين عالميتين، فإن الاتحاد الإنساني ينبغي أن يولد ولادة طبيعية سليمة لا ولادة قيصرية، وإذا كان في الميدان من يسر بنهاية التاريخ، وصدام الحضارات، فكأنهم سدنة إله الحرب، علينا أن نعرف التاريخ وأنه ليس في نهايته، بل علمنا التاريخ أن الحضارات التي لا تتمكن من التكيف مع التاريخ هي التي تنشر فكرة نهاية العالم، وأن الصدام ليس هو الذي يخدم التاريخ، وهذا ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى، أن الأنبياء لم يأت دورهم في تاريخ البشر السابق، بل الآن صار العالم قادراً أن يفهمهم الأنبياء لم يأتوا للتنافس في الصدام العنفي، الأنبياء جاؤوا للتنافس في فعل الخير، لنتنافس كيف نصنع السلام العالمي، ونصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأُمنية الأنبياء. وأقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون خدمات للناس أكثر.
« من أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخْدُمَ » متى (20: 27 - 28).
حتى إن المثقفين ليشعروا بأنهم إذا تناولوا الحديث عن الطفل سيتلوثون بماء غسيله. ولما تراءى لصاحب كتاب (تاريخ الجنون) وانتهى في بحثه (عمل الجنون الأعظم) إلى نوع من الغيرية يخرج عن متناول العقل والدين. حيث تساءل: « ماذا إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية، فهو تصور تجربة أصيلة تقع خارج التاريخ، ويهمسون أن هذه المحاولة الفلسفية مميزة لأكثر أشكال الفكر الحديث تقدماً، لكنه محكوم عليها بالفشل »(1).
هذا المفهوم المحكوم عليه بالفشل، هو الحجر الذي يرفضه البناؤون للحداثة الفكرية وهو الذي جاء في الإنجيل:
« قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره » متى (21: 42 - 43).
إننا أدنّا في العالم حق (الفيتو) ولكن كما ننكر الخطأ ينبغي أن نعترف بالتوجه إلى الصواب وبمن يقترب من الصواب، هل لي أن أقول: إن نسمة الديمقراطية في العالم كانت اقتراباً من دعوة الأنبياء، ومن توحيد الله وما لم نعرف هذا أيضاً، لا نكون مدركين تطور التاريخ. إن ما جاء به الأنبياء كإيمان بالمساواة بين الناس بدأ يدخل إلى حياة الناس علماً ووعياً. لقد كان بطيئاً ومكرباً وسريعاً على حسب فهمنا لنسبية الزمن إلاَّ أن ميلاد الديمقراطية مفهوماً وواقعاً مهما كان حجمه صغيراً كان ميلاداً لشيء جديد في العالم، وتضافرت عوامل كثيرة حتى صار ميلادها ممكناً وواقعياً. لقد كان تجسيداً لدعوة الأنبياء للتوحيد وتوسيعاً لمعنى القانون، ولكنها ولدت بين الدماء. هذا هو الفرق بين الأنبياء والديمقراطية بكل الإيجاز: الديمقراطية ولدت في مفهومات تجيز للناس صنع المجتمع بالدماء، والأسماء تمنع ذلك وتصر على صنع التوحيد بالإقناع وليس بالإكراه والعنف، وما لم نفهم هذا، لا نفهم المشكلات الحالية المعقدة في حياة البشر الآن. الديمقراطية تصل إلى الإقرار في النهاية بعدم جواز صنع الحكم بالعنف، ولكن الثقافة التي صنعت الديمقراطية أجازت العنف وقتل المستبدين بشعوبها والمتسلطين على الشعوب الأخرى والثورة عليهم.
بينما الأنبياء اعتبروا هذا العنف غير شرعي، وأصروا على صنع الشرعية بالشرعية، بينتا مفهوم الثقافة الحديثة قد نصَّ على جواز استخدام العنف لصنع الشرعية وهذا النقص والعيب لا يزال يلاحق، ويلوث العالم ويجعل الناس جميعاً يتناقضون في مواقفهم. وبقاء حق (الفيتو) بعد زوال كل مبرراته نتيجة لذلك الخطأ.
إن دعوة عيسى عليه السلام لم يكن تغيير أحكام، ولكن تغيير المجتمع، ومن هنا ظن من ظن أن عيسى عليه السلام يترك ما لقيصر لقيصر، ويفصل التوحيد عن السياسة، ويفصل الدين عن الدولة، فإن هذا الظن خاطئ وملوث ويجعل حل المشكلات عسيراً، بينما إصلاح السياسة هو التوحيد الذي ينبثق من وعي الناس، وخروج البشر من طاعة المستكبرين الفراعنة في تنفيذ قهرهم للناس. كم هو بسيط هذا الذي جاء به الأنبياء، وكم هو اقتصادي في الأموال والأرواح ؟ ولابد من إعادة كشف هذه التقنية الاجتماعية السياسية التي جاء بها الأنبياء وإلى الآن نعجز عن فهمها، ونقوم بفصل الدين عن السياسة. نعم، فصل العدل عن السياسة، ففي دين العالم الآن لا مانع أن يكون العدل مفصولاً عن السياسة العالمية، فهكذا فصلنا السياسة عن العدل والمساواة، بعبادة القوة والإكراه و (الفيتو) هذا في شريعة الذين يفصلون الدين عن السياسة.
أما الذين يخلطون الدين بالسياسة كما في العالم الإسلامي، فإنهم أيضاً يقلدون العالم وينفصلون عن الأنبياء في قبولهم جواز صنع الحكم بالعنف. إن العنف الجزائري الآن مثلُهُ الأعلى هو الثورة الفرنسية، وليس دعوة الأنبياء، وأما العالم المتحضر الذي لا يتعاون مع الثورة الجزائرية فإنه يخون مبادئه في حق تقرير المصير للشعوب ويخون الديمقراطية حيث لا ينصرها. إن الأزمة العالمية كلها أنهم لا يزالون يعتمدون على العنف والقوة والجهاز العضلي، بدل الثقة والاطمئنان إلى قوة الفكر. نعم، ينبغي أن نفصل بين الفكر والعضلات فصلاً باتاً قاطعاً، ينبغي أن نحدث قطيعة معرفية بين الفكر والإكراه وأدوات الإكراه.
(إِ كْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا..) ] البقرة: 2/256 [.
لا إكراه في الاعتقاد، في الفهم (حرية الاعتقاد) بهذا تبين الرشد من الغي، والحق من الباطل، والنافع من الضار، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه، ويكفر بالدين الذي يجيز الإكراه في الدين، ويؤمن بالله الذي يحرم الإكراه في الدين، فمن فعل هذا، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، إذا كان للفلاسفة حجر تحويل المعادن إلى ذهب، فإن حجر الأنبياء الذي رفضه بناؤوا العالم، هو الذي صار حجر الزاوية.
هذا الذي قال عنه المسيح:
« ومن سقط على هذا الحجر يَتَرَضَّض، ومن سقط علي هو يستحقه » متى (21: 44).
ولهذا قال لأحد الذين معه لما جاؤوا ليقبضوا عليه:
« وإذا واحدٌ من الذين مع يسوع مدّ يده واستل سيفه وضرب بع عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له يسوع:
« رد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يَهْلَكُون » متى (26: 52).
وحين ننظر إلى امتدادات هذه الفكرة، نجد أن أتباع المسيح ظلوا مكافحين وهم ملتزمون هذه الطريقة، يحرمون على أنفسهم القتل أو محاولة تغيير أفكار الناس بالقوة، وظلوا يبشرون، ليس في فلسطين فقط، وإنما في قلب روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية حيث كانت فلسطين تابعة لها، واستمرت الفكرة النبوية على نبذ العنف وقبول الاضطهاد إلى أن تحول الناس وتحول المجتمع، ثم تحول الإمبراطور نفسه إلى المسيحية. ليس بثورة دموية كالثورة الفرنسية والشيوعية، وغيرها من ثورات العالم، وغنما من دون أن يقتل المسيحيون أحداً، فقد تحولت روما إلى المسيحية بعد أربع مئة عام من الكفاح السلمي العلمي الأخلاقي الصعب، والضحايا من طرف واحد فقط. يا لها من عملية إبداعية ستمكن الناس من فهمها في المستقبل، ولكن العالم لم يكن متمكناً من وعي وفهم هذا الحدث، كقانون وتقنية سياسية.
إن هذا الذي حدث للمسيحية خلال أربع مئة عام من الكفاح، حدث للمسلمين خلال أقل من أربعة عشر عاماً من الدعوة على نفس طريقة أتباع المسيح، وذلك بالخروج من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله، ليس بقتل الطاغوت، ولكن بالخروج من طاعته في الشر ودعوته إلى الخير. وكذلك لما انتقل المسلمون إلى المدينة لم يدخلوها إثر معركة وثورة دموية، وإنما بتحول إقناعي اجتماعي طوعي حيث تكون مجتمع جديد من دون عنف ومن دون قتل رجلٍ واحدٍ من المجتمع الذي زال زوالاً طبيعياً. وقتل شخصان فقط ن المسلمين في مكة تحت التعذيب، وكانوا ممنوعين من أن يدافعوا أن أنفسهم.
إن الذين يؤمنون بجواز صنع المجتمع بالعنف لا يشعرون أنهم يجعلون العنف إلههم ويرسخون شريعة الغاب، شريعة القوة، ويرفضون القانون، ويثقون بالقوة ولا يثقون بالفكر، إنك حين تجيز لنفسك صنع المجتمع بالعنف، تلقائياً تكون أجزت للآخر أن يفعل ذلك، وتكون بذلك دخلت الحلقة المعيبة حلقة تأليه القوة والطاغوت، وبهذا الفهم يمكن أن ندخل إلى عالم آخر، وهو انه إذا امتنعت عن تغيير المجتمع بالعنف وحرمته على نفسك تحريماً قاطعاً، تكون دخلت إلى عالم آخر ؛ عالم شريعة الإنسان الذي يعرف الخير من الشر، وإذا حرمت على نفسك العنف، هناك يتولد عند الآخر الشعور بأنَّ لك الحق بأن تطالب بتحريم العنف، وإلا لا تكون صادقاً ولا أميناً لا مع نفسك ولا مع الآخر. والقرآن يقرر هذا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) ] الصف: 61/2-3 [.
فمن هنا حرم الأنبياء جميعاً استخدام العنف في صنع مجتمع القانون، لأنه مستحيل أن تصنع مجتمع القانون وأنت تؤمن بالعنف، لأنهما متناقضان، وأصعب شيء يواجهني به الناس في دعوتي إلى اللاعنف وإلى إحياء فكرة ابن آدم وسقراط والمسيح ومحمد (ص) حين أقول: إن الأنبياء حرموا الدفاع عن النفس حين يقع عليهم العدوان من المجتمع أو ممثليه.
فهذه الفكرة النبوية الأساسية هي الفكرة المرفوضة، من قبل العالم كله رفضاً قاطعاً ولا قدرة له على تأملها والبحث فيها، وما لم يفهم الإنسان هذا الموضوع لا يمكن أن يدخل في عالم الأنبياء ولا عالم الديمقراطية، لأن الأنبياء يريدون أن يصنعوا مجتمعاً لا يحمي الأفراد فيه أنفسهم إلا باحترامهم والتزامهم القانون. والقانون يمثل الشخص الثالث بين المتنازعين فإذا لم يوجد ثالث - خارج القطبين: قطب المستكبر الذي يخاف أن يفقد استكباره، والمستضعف الذي يتمنى أن يصير مستكبراً - فإذا لم يوجد هذا الثالث فسيظل القطبان يتبادلان المواقع حتى يبرز الثالث الذي يلغي الاستكبار والاستضعاف. لهذا خرج الأنبياء من النزاع وأعلنوا الخروج من النزاع من طرف واحد، ليهددوا السبيل لوجود المجتمع المدني وإلغاء المجتمع العسكري، لإيجاد مجتمع الجهاز العصبي المتطور، وإلغاء مجتمع الجهاز العضلي، وهذا ما فعله ابن آدم الأول والأسماء ويفعله دعاة السلام الآن، إلى يومنا هذا لا يوجد فيه ثالث الذي يحكم بين المتنازعين، وإنما يوجد في العالم اثنان متنازعان ولم يولد الثالث. الأنبياء بشروا بهذا والتزموا عملياً بمنع جواز الدفاع عن النفس، ليصنعوا المجتمع السواء الذي لا يوجد فيه مستكبر ولا مستضعف ؛ لأن المستضعف هو الوجه الآخر لمجتمع الاستكبار حيث المستكبر والمستضعف فقط. الأنبياء جاؤوا بعالم جديد لم ير الوجودَ بعدُ بشكل مُمارسٍ من قبل البشر إلا في الجزر الديمقراطية، وبشكل معاق غير راسخ وضعيف. إلا أنه مع ذلك ولد حياً قابلاً للنمو مهما كان يشكو من ضعف ورخاوة، ولقد نما بشكل ملحوظ بظهور التحاد الأوروبي حيث لأول مرة في التاريخ يتحد عدد من الدول والقوميات المختلفة على أساس المساواة (كلمة السواء) أمام القانون، ووعي الشعوب لا على أساس إمبراطور مستبد. لهذا لم تتحد أوربا على يد نابليون أو هتلر وإنما تتحد على أساس (كلمة السواء) أمام القانون، ولا يوجد حق (الفيتو) في الاتحاد الأوربي. ويمكن أن يتحول إلى نموذج للاتحاد العالمي من حيث المبدأ، أما الأمم المتحدة فلا يمكن أن تفعل ذلك إلا إذا قبل المجتمع الخضوع لقانون واحد وإلغاء (الفيتو) من العالم.
ما أدري إذا كنت واضحاً، أو تمكنت من شرح ما أريد أن أوضحه للذين أتوجه إليهم بهذا الخطاب، فإذا لم أتمكن من ذلك فلا ألومهم وإنما ألوم نفسي ؛ لأنني لم أتمكن من ضرب الأمثلة الواضحة المترابطة المتسلسلة التي تقع تحت خبرتهم وممارستهم، إن طمعي في الإقناع يتجاوز إلى أن أتمكن من الخطاب مع الناس العاديين، وأظن أن الأنبياء يمتازون بتوجيه خطابهم إلى الناس جميعاً وأن الناس العاديين هم أقرب للاستجابة لهم.
« أحمدك أيها الأب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء وأعلنتها للأطفال » متى (11: 25).
شروط القتال في الإسلام
ربما أسلوب بحثي يصدم القارئ فيقول: كيف تفسر الحث الشديد والمتكرر في القرآن على القتال والجهاد ؟ كيف يمكن الانسجام بين اللاعنف، وبين القتال والجهاد الموجود في القرآن بتكرارٍ وإصرارٍ ؟ لبحث هذا الموضوع لابد من الإحاطة ببعض الجوانب الأساسية وإلا فلن نفهم شيئاً.
أولاً لابد من التفريق بين:
1- المجتمع المبنيِّ على أساس القوة والعنف والإكراه، فهذا المجتمع اللاشرعي واللاقانوني، مجتمع الغاب مجتمع الأظفار والأنياب، فهذا المجتمع هو المجتمع الذي جاء الأنبياء للقضاء عليه وإزالته، لابد من التفريق بين هذا المجتمع وبين:
2- المجتمع المبني على أساس القانون والعدل والشرعية. وليكون هذا المجتمع شرعياً ينبغي أن يتكون بطريق سلمي ليكون شرعياً مبنياً من الأساس على السلام والشرعية والإقناع، وعدم الإكراه فهذا المجتمع هو الذي يحمي أفراده.
وإذا استخدمنا المجتمع على المفهوم الذي يستخدمه (أرنولد توينبي) بمعنى الحضارة وليس الدولة، فإن الحضارات كمجموعات بشرية ضخمة، يمكن فرزها ككائنات متميزة، ينبغي أن نعترف أن الحضارة المسيحية هي التي أبرزت الدولة السياسية الديمقراطية على كل علاتها. مولود جديد في الحياة البشرية ورصيدها الأساسي الوعي الشعبي، وعلى قدر رسوخ هذا الوعي يكون رسوخ الديمقراطية أيضاً، فالدولة الديمقراطية ليس فيها حق (الفيتو) والسلطة للإقناع الفكري وغن كان هناك تلاعبٌ يكون بالإقناع أيضاً، وليس بالإرهاب أو الإكراه.
ومع بروز الديمقراطية داخل الدولة الواحدة فإن العلاقات بين الدول على أساس القوة إلى الآن، ومع أن القوة فقدت مفعولها الواقعي إلا أنها لا تزال تقوم بدورها السحري.
ينبغي أن تتحول العلاقات الدولية إلى الإقناع والقبول الطوعي والتنافس على الإقناع وليس التهديد بالقوة، علينا أن نرفع مستوى وعي الناس حتى تتحول الأمم المتحدة إلى مؤسسة ديمقراطية ؛ مؤسسة كلمة السواء.
إن الأمم المتحدة لا تزال كأي بلد مختلف، يحكمه طاغية وحاشيته ولا قيمة لدستور ولا برلمان. ولكن الأمم المتحدة أسوأ ؛ لأن دستورها لا يوجد فيه حتى المساواة النظرية، بل ينص على حق (الفيتو). الأمم المتحدة ليست شرعية مهما سميت شرعية دولية، لأنها تفقد المساواة، ولا شرعية بدون مساواة. فالذين يقبلون كلمة السواء ينبغي أن ينشئوا مؤسسة السواء، وإلى الآن لم يواجه العالم هذا الموضوع بجدية، حيث أنه إلى الآن لا يوجد في العالم من يثق بكلمة السواء، والناس عادة لا يدخلون في التجارب الجديدة إلا مضطرين، وكأن الظروف العالمية لم تنضج بعد حتى يشعروا بضرورة الدخول إلى التجربة الجديدة.
ولبحث موضوع القتال المأمور به في القرآن، نحاول أن نوضح شروطه التي تجيز القتال أو توجبه.
أولاً - لا يجوز القتال ولا القتل لأجل فرض دين بالإكراه من أيٍ كان، دولةً أو أفراداً، وأي تهديد أو إكراه لمطالبة إنسان بقبول رأي أو فكر بالقوة مرفوض في الإسلام رفضاً باتاً. ليس في الإسلام فقط بل عند كل الأنبياء كما بينا ذلك لأن التوحيد هو رفض طاعة من يأمر بقتل أحد من أجل أفكاره. يقول القرآن: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا) ] البقرة: 2/256 [ . بل يحرم الدفاع عن النفس قبل تكوين المجتمع الذي يحمي كل الأديان، ويحرم قتل أي إنسان من أجل العقيدة، فحرية العقيدة شيء أساسي بل هو التوحيد ؛ لأن التوحيد كما بينا سابقاً ليس مسألة لاهوتية، وإنما مسألة اجتماعية سياسية، ويُعلّمُ التوحيدُ أتباعه أولاً أن لا يكونوا أداة لمن يريد أن يفرض دينه بالقوة، وأن يرفضوا أن يقبلوا ديناً بالقوة والإكراه، فالنفس الإنسانية محرمة ولا يجوز قتلها من أجل الأفكار، فقتل الإنسان لأجل الأفكار محرم، ويصف القرآن عباد الرحمن المؤمنين بأن من صفاتهم:
(لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ] الفرقان: 25/68 [.
(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ] المائدة: 5/32 [.
هذا ما جاء به الأنبياء جميعاً والتزموه، وهذا ما وصلت إليه الديمقراطية بعد تجارب التاريخ المريرة في تقرير حرية العقيدة مبدأً أساسياً في كل دستور ديمقراطي.
ثانياً - حين يتكون مجتمع حرية العقيدة، وينتج هذا المجتمع مؤسساته السياسية، إن مؤسسة هذا المجتمع ينبغي أن تحمي حرية التدين بين الناس. وتحمي أموالهم ودمائهم بالعدل، بكلمة السواء، فالقرآن يخاطب هذا المجتمع الذي تكون بالقبول الطوعي لمبدأ (العدل والسواء) أن يقيم العدل والسواء داخل هذا المجتمع ضمن الشريعة والقانون، ولا يجوز تفسير الشريعة والقانون بغير العدل يسوي بين الناس. وكثيراً ما يعترض الناس هنا بأن كل الناس يفسرون شريعتهم وقانونهم بأنها العادلة، وللرد على هذا الاعتراض علينا أن نكرر أيضاً:إن تفسيرنا أو تفسير الآخرين لن يتمكن من التلاعب بالعواقب والنتائج والثمار التي تنتجها تفسيراتهم، لأن العواقب هي التي ستشهد على صحة التفسير، وكثرة التفسيرات الخاطئة ينبغي أن لا تؤدي بنا إلى اليأس والعدمية، وما أكثر الذين يستسلمون إلى اليأس والعدمية عند هذه العقبة. فلهذا حرم تكوين وصنع المجتمع بالعنف ؛ لأن المجتمع الذي يصنع بالعنف ينبغي أن يجيز للآخر ما أجازه لنفسه، فيكون قبل شريعة الغاب لا شريعة القانون، ومجتمع العدل الذي تكون وقبل به المجتمع طوعاً. إذا خرج عليه من يريد أن يفرض شريعة الغاب فلهذا المجتمع الشرعي حق منع عدوا من يحاول الخروج على شريعة العدل، وهذا ما يقرره القرآن ولو بالقتال إن لم يمكن منعه بغير قتال (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ] الحجرات: 49/9 [.
فالقتال من قبل مجتمع العدل لإيقاف الذين يقتلون الناس، ويُهجِّرونهم لأجل أفكارهم أو أعراقهم، واجبٌ. ومجتمع العدل لا يهم ما اسمه - لأن الأسماء لا تغير الوقائع - وإنما أن يؤمن العدل بين الناس هو الهدف، فمن يؤمن بهذا فهو مؤمن إيماناً يُمنِّه في نفسه وماله، (تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) ] النساء: 4/94 [.
لأنه يؤمن بالعدل وهو موحدٌ لله عملياً ؛ لأن التوحيد رفضُ الطاغوت والظلم، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه، ويؤمن بالله الذي هو اللااكراه، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. والأنفس من يؤمن بالطاغوت وبالإكراه فهو مشرك بالله، وهو الذنب الذي لا يغتفر، لهذا بعد آية اللاإكراه في الدين يقول:
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) ] البقرة: 2/257 [.
فالموضوع ليس بالكلمات والرموز، فالموضوع علم فلك وعلم مجتمع وليس لغات. فإذا سمينا الكفر إيماناً والإيمان كفراً لا يتغير الكفر والإيمان، وإذا سمينا الطاغوت إيماناً والعدل كفراً لا تتغير المسميات. هذا هو القتال المسموح به داخل المجتمع الواحد الذي يسلم بكلمة السواء، فإذا خرج في هذا المجتمع من يريد أن يفرض بالإكراه والعنف، فيوقف - الخارج على القانون وكلمة السواء - بالقتال إن لم يكن إيقافه بغير قتال، من أي دين كان هذا المعتدي. ويطلق عليهم في المصطلح الإسلامي (الخوارج) و (البغاة).
فلهذا سمى المسلمون الخلفاء الأربعة بعد الرسول (راشدين) ؛ لأنهم لم يأخذوا الحكم بالسيف والقهر، ولم يجعلوا الحكم بعدهم لأولادهم بالوراثة. ولم يسمّ المسلمون خلال تاريخهم كله أحداً من الحكام بعد ذلك راشداً، لأنه من ذلك التاريخ إلى يومنا ها، بقي الحكم بالسيف في كل العالم الإسلامي. فهم وإن عجزوا عن إعادة الرشد عملياً في حياتهم الواقعية، إلا أنهم لم يضيعوا معنى الرشد، وفهموا الرشد ليس على أنه صنع إنساني، وإنما على أنه صنع إلهي، أكرم الله به الرسول وأصحابه، فهذا هو خطأ المسلمين وخطأ العالم المعاصر لهم والسابق عليهم. ولم يتحول الرشد إلى صنع إنساني إلا في الديمقراطيات الحديثة المتأخرة جداً، فالقرآن رسخ في أذهان الناس أن الحاكم الذي يأتي بالإكراه لا يكون راشداً، إنما هو طاغوتٌ وغير شرعي، ولكنهم عجزوا عن فهم إمكانية إعادة الحكم الشرعي بغير عنف، فرجعوا إلى قبول العنف في صنع الحكم، ودخلوا في دائرة شريعة الغاب مرةً أخرى، ولم يخرجوا منها إلى يومنا هذا، وربما يمكن أن نقول إن: تركيا وحدها قبلت التحدي الديمقراطي في العالم الإسلامي، وهو البلد الذي قلد الغرب ونبذ الدين بثورة شبيهة بالثورات الغربية، ولكن الآن هذا البلد الذي سبق العالم الإسلامي كله في إلغاء الإسلام والحكم الإسلامي غير الراشد، يعيد نفس هذا البلد الرشد، أو صنع الحكم على طريقة الرشد، ويمكن إذا تعمق هذا الاتجاه أن يعود الرشد إلى العالم الإسلامي كله، كما تدخل أوربا الغربية إلى الاتحاد بالرشد.
هذه الأحداث التاريخية أحداث مهمة ونمو في الحركة الإنسانية. وعلينا أن نستبشر بها لنُسَرِّع من حركتها، لا أن نتوجس منها ونخاف، لأن الذين يخافون منها خشية أن يفقدوا امتيازاتهم، ليست في محلها ؛ لأن هذا التقدم الذي يحصل في العالم لصالح الجميع، ومن لا يفهم هذا ينبغي أن نساعده في فهم ذلك، ومهما كان فهم ذلك صعباً، فعلى أهل الفهم والعلم أن يبينوا حتى لأصحاب الامتيازات أنهم لن يخسروا شيئاً غير الخوف الذي عندهم وسيكسبون الأمن، وليس علينا إلا الفهم والتفهيم.
ثالثاً - علاقة هذا المجتمع ؛ مجتمع العدل وكلمة السواء مع بقية المجتمعات. القرآن لا يريد من بقية المجتمعات في العالم إلا أن يتركوا أمرين اثنين فقط:
1- قتل الناس لأجل دينهم، أي من أجل أفكارهم وعقائدهم وتفسيراتهم وصورهم الذهنية مهما كانت هذه الصور.
2- تهجير الناس من ديارهم للأسباب السابقة نفسها.
فإذا تركت المجتمعات هذين الأمرين فقد استحقت الإحسان والعدل. يقول القرآن:
(لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) ] الممتحنة: 60/8-9 [.
ويقول القرآن أيضاً - مخاطباً مجتمع العدل - عن المجتمعات الأخرى:
(فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً … فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) ] النساء: 4/90-91 [.
هذا هو دستور القتال والجهاد في القرآن، فكل مجتمع لا يمارس القتل والتهجير لأجل الأفكار، فهذا المجتمع حمى نفسه وماله بحسب شريعة القرآن ومجتمع القرآن. وكل قتال خارج هذه الشروط، فهو قتال الطاغوت وقتال الجاهلية، ليس القتال الذي سمح به القرآن. ويقول القرآن: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) ] النساء: 4/76 [.
وما دام هناك قتل للناس وتهجير لهم من ديارهم لأجل آراءهم، فقد أعطى القرآن لمجتمع العدل - الذي صنع نفسه بالشرعية - سلطاناً مبيناً ليوقف هذا القتل والتهجير بكل الأساليب التي توقف هذا القتل والتهجير بأقل الوسائل كلفة، وبالقتال الشديد إن لم يمكن إيقافه بغير القتال. فهذا هو القتال المشروع في القرآن، فكل الآيات التي تأمر بالقتال متوجهة إلى المجتمع الذي يلتزم بهذه الشروط.
ويمكن أن نقول: القتال المشروع في القرآن يحتاج إلى شرطين:
1- شرط للمجتمع الذي يمارس الجهاد أن يكون صنعَ مجتمع القانون بطريق سلمي شرعي.
2- شرط للمجتمع الذي يُمارسُ القتالُ ضده وهو أن يكون هذا المجتمع يقتل الناس ويُهجِّرهُم من ديارهم. ومن دون هذه الشروط لا يوجد قتال شرعي في القرآن. وإذا لم يوجد مجتمع يقتل الناس ويهجرهم من ديارهم، فقد يكون القتال توقف في العالم ويكون الناس دخلوا عالم السواء، وتكون الحروب قد ألغيت غير مأسوف عليها، ودخل الناس في السلم كافة.
وهذا العالم لم يعد خالياً بل صار ممكناً، لا بل صار ملحاً وضرورياً، فكما ألغي الرق الذي كان نشأ نتيجة الحروب، ستلغى الرب، وستوجه كل الطاقات للتنافس في ابتكار الوسائل للمهمات الكبيرة والعاجلة، لإيصال خلاصة دروس جهد البشرية خلال تاريخهم إلى أدمغة الناس، وإن شئت قل إلى عقولهم أو نفوسهم ؛ لأن غياب خبر الأحداث عن الناس هو الذي يدفعهم إلى الفهم الخاطئ وإلى السلوك الخاطئ، أي إلى الكراهية ثم إلى سفك الدماء.
نرجو أن نكون وضحنا بهذا دستور القرآن والأسماء والآمرين بالقسط من الناس في شأن القتال، وإذا عرفنا هذا، يمكن أن يساعدنا على فهم ما حدث للمسلمين كما حدث للأصح السابقة، حيث كتب المسلمون ثقافتهم حول القرآن بعد أن فقدوا الرشد وتكيفوا مع الغي، فأجازوا أخذ الحكم بالعنف، ولم يتمكنوا من فهم تغيير المجتمع بالإقناع، وإنما تغييره بالعنف والقوة، مع حنينهم الدائم إلى الحكم الراشد ومنهج الأنبياء. ولكن الحضارة الغربية جاءت أيضاً بجواز صنع الحكم بالعنف والقتل، فكان هذا الخطأ مساعداً على استمرار خطأ المسلمين، فهم يقومون الآن بإعادة الرشد بالثورة، بينما ينبغي أن يصل المجتمع إلى درجة تحريم العنف ليتمكنوا من صنع الرشد أو الديمقراطية. فيعيش العالم الغربي في تناقض كما يعيش المسلمون في تناقض، ولابد من العودة إلى منهج الأنبياء بتحريم العنف والإكراه في فرض الدين والسياسة. وينبغي أن يعترف الجميع بمبدأ الأنبياء في عدم جواز العنف لفرض الدين ولفرض السياسة، وعند ذلك سيسقط الطواغيت الصغار مع الخمسة الكبار، ليبدأ العالم نظاماً عالمياً جديداً بحق وعلى كلمة السواء. وعلى مثقفي العالم أن يكشفوا إلى أي درجة ابتعد العالم جميعاً عن الدين وعن نصرة الديمقراطية، حيث يفهمون الدين على أنه قهر وإكراه وحيث يقبلون الامتيازات على إنها قانون. فكما الإكراه يلغي الدين، كلك الامتيازات تلغي القانون، ولا تزال دعوة الأنبياء في حاجة إلى نوع جديد من أهل العلم ليستعيد العالم الثقة بالدين، وبالقانون وبالإنسان، حيث تعيش الإنسانية أزمة ثقة. فإذا كان العالم جميعاً يسكت على تشويه معنى الدين والقانون، فإن التاريخ لا يبالي بالذين يتجاهلون عِبَر التاريخ، ويطبق عليهم قانونه الذي انطبق على الماضين.
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ] هود: 11/102 [.
والقرآن يقول عن الذين لا يعتبرون بالتاريخ: سيجعلهم عبرة للمعتبرين، هؤلاء لن تبكي عليهم الأرض ولا السماء ولن تتوقف حركة التاريخ من أجلهم.
(كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) ] الدخان: 44/28-29 [.
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ] المؤمنون: 23/44 [.
(وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ] سبأ: 34/19 [.
والتاريخ لا يزال سيره على توقعات الملائكة، حيث إن البشرية لا تزال في عهد الفساد في الأرض وسفك الدماء ولم تحقق بعد ما علم الله فيها.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ … قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ) ] البقرة: 2/30-31 [.
وبدأ يراود بعض المثقفين نوعٌ من العلاقات الإنسانية السوية والغيرية في بدايةٍ لمعارضة جذرية للثقافة الغربية، بل ثقافات العالم جميعاً. حيث هناك تصور تجربة أصلية تقع خارج التاريخ، لم يسبق أن سُجِّلَ في التاريخ بشكل عملي في مجتمع يسيطر على هذه العلاقة بوعي، وإن بلغ بعض الأفراد كنوع شاذ من البشر. وإن الذين استطاعوا أن يلمحوا هذا النوع من العلاقات ويرونه محكوم عليها بالفشل، فعباراتهم تتحدث عن هذه العلاقة الجديدة بأنها فاشلة، إن لم ينعتوها بأنها خالية ومثالية، بل يرون أن أصحابها ذهبوا ضحية أفكارهم حيث قتل ابن آدم، وسقراط والمسيح، وغاندي، ولا ينتبهوا إلى أن بذرتهم التي بذروها واعتنى بها الأنبياء، الآن التاريخ بدأ يعتني بها وصارت الدعوة على الألسنة، ويدينون العنف وإن كانت إدانتهم مثل الذي يبحث عن القذى في عين الآخر، وإن كانوا لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم. وإن القتل لم يعد بطولة ولا يبعث على الإعجاب، حيث بدأ العلم يتلمس بقرون الاستشعار أن الجهاز العصبي قابل للفهم وليس علاجه كسره وسفك دمه.
إن دم ابن آدم الأول الذي سُفك لم يذهب سدى. إن صراخ دمه لا يزال يقرؤه الملايين من الرجال والنساء والأطفال وإن كانوا لا يفهمون معناه. فمنهم يقرؤون في الكتب المقدسة: « أن قايين قام على هابيا أخيه وقتله فقال الرب لقايين أين هابي أخوك ؟ فقال لا أعلم أحارس أنا لأخي فقال ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دمَ أخيك من يدك … قال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يُحْتَمَل » تكوين (4: 8-14).
وفي القرآن الذي يحفظه الملايين عن ظهر قلب، ويقرؤه مئات الملايين في صلواتهم اليومية، يقرؤون قصة ابني آدم، وإن كانوا لا يعرفون التقنية العجيبة في هذه الحادثة، تقنية الجهاز الجديد، الجهاز العصبي الإنساني القابل لاستيعاب معطيات التطور في التاريخ. يقول:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ) ] المائدة: 5/27-31 [.
نحن ربما أبناء القتلة بيولوجياً، ولكننا بدأنا نعرف كيف سنكون أبناء الجهاز العصبي، الذي استوعب عِبَر التاريخ، وكما كان علماء الفلك يفهمون الفلك على أساس مركزية الأرض، ربما علماء الإنسانيات يفهمون الإنسان على أساس مركزية الإنسان، لا على أساس مركزية التاريخ، فيخطئون في التفسير. والخطأ في التفسير شأن الجهاز العصبي الإنساني، ولكن التاريخ يصحح التفسير الخاطئ في الفلك، والطب الجسدي، والتربية السيكولوجية والعلاقات الاجتماعية.
إنَّ المشكلة ليست في النصوص ولا في الإنسان، ولكن المشكلة في تقديم المعرفة التاريخية بتسلسل غير منقطع. أتمنى أن نفهم التاريخ على أساس متصل في التطور وليس على أساس منقطع وخلال عمر موضوع الدراسة، لا على أساس لحظة من عمرها.
إن باستور لما كان يبحث في زجاجات الخل، ليعلم كيف ينتقل الفساد في الكائنات العضوية، كان الناس يموتون بالجدري والكلب وأنواع الأمراض المعدية، ولكن الذين يبحثون في زجاجات الثقافات، ليعلموا كيف ينتقل الفساد خلال الكائنات الثقافية، سيكتشفون الكائنات الفكرية الدقيقة المبثوثة في أغذيتنا الفكرية وثقافاتنا المقدسة، لنتمكن من كشف قوانين الصحة الفكرية، وكما أمكن كشف قوانين الصحة الجسدية، وتعقيم المواد الثقافية من الجرثوم الذي يؤدي إلى قتل الناس بأيدي إخوانهم، لابد من كشف وسائل التحذير النفسية حتى لا تكون الجراحات مؤلمةً لنزع الخلايا السرطانية أو القضاء عليها.
لما كنا نجهل الكائنات العضوية التي تنقل الأمراض، كما يمكن أن ينقل إليك المرض شخص يحبك ويقبلك ويبكي عليك حين تموت. الآن نحن كذلك ؛ كان الناس يعلمون في الكنيسة صباح الأحد أحبوا أعداءكم، ولم يكن متناقضاً مع ما يعظون به من حب العدو أن يحرقوا بالنار من لا يفهم بعض الأمور بشكل مختلف. هل يمكن أن نضع تحت المجهر نوع هذا الجرثوم الفكري الذي يقوم بهذا الدور ؟ ونوع المناخ الثقافي الذي يمكن أن ينتشر فيه هذا الجرثوم ؟ أظن أننا نخصص مبلغاً معيناً لمرض (الإيدز) و (السرطان) للسيطرة عليهما، ويهتم عامة الناس بأخبار ذلك الجهد وما وصلوا إليه، ولكن هل في مقابل ذلك يوجد وعي متطور واهتمام شعبي متابع للصحة الفكرية ؟ في منظمة الصحة العالمية يشكُون ويقدمون بيانات بصور متعددة في الإنفاق الذي يخصص للتسلح بسخاء هنا، وإقتار هناك.
قد يقول من يتابع هذا البحث إنني أتلاعب بالنصوص، نعم أنا لا أنكر أنني أتلاعب بالنصوص. النص كله تلاعب، إن لم نرجع إلى الموضوعات التي تتناولها النصوص، لأن كلمة الحب ليست حباً، وكلمة النار ليست ناراً، ولكن إذا رجعنا إلى الموضوعات فهناك نستطيع أن نصحح التلاعب.
وهناك سنعلم أن (الدش) البارد ليس هو الدافئ، لقد تلاعبنا خلال التاريخ كله بالكلمات وبالنصوص، إلا أن التاريخ لم يبال بتلاعباتنا، وظلت سنن التاريخ كما هي ولم تتغير ولم تتبدل. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ] فاطر: 35/43 [. وأنا لا أعول على النصوص وحدها ؛ لأن تجربتنا مع النصوص كبشر وكعالم إسلامي قابلة للدراسة، ولن ترجع للنصوص قيمتها إلا بعد أن نتعلم التعامل مع الموضوعات، وعند ذلك ترجع للنصوص وظيفتها بدور إيجابي.
فقد قال النبي (ص) في ذلك:
« يوشك أن يُرفع العلمُ … وذاك عند ذهابِ العِلْمِ فقال: زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف يَذْهبُ العلمُ أو يُرفع العِلمُ، ونحنُ قرأنا القرآن وعلَّمناه أبناءنا وأبناؤنا يُقرئون أبناءَهم، فقال رسول الله (ص) ثَكِلَتْك أَمُّك يا ابن لبيد، إن كُنتُ لأراكَ من أفقه رجُلٍ بالمدينة، أو من أفقهِ أهلِ المدينة، أو ليستِ التوراةُ والإنجيلُ بأيدي اليهودُ والنصارى فما أغنى عنهم حينَ تركوا أمر الله، أو قال الرسول، أو ليست هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيل ولا ينتفعونَ مما فيهما بشيء ».
(هذا الحديث من مسند أحمد وصححه ابن كثير في تفسيره للآيات 59 - 66 من سورة المائدة).
في هذا الحوار الذي دار بين النبي (ص) وصاحبه، نرى حواراً موضوعياً وعلمياً بكل معنى الكلمة، هنا لا يتحدث النبي محمد عن غيبٍ، وغنما يتحدث عن واقع معاشٍ، وحين يحتج صاحبه: إن العلم لن يفقد مع وجود النصوص، لا يحاول النبي هنا أن يتكلم على أساس أن هذا من الله، أو من النبي الذي يُقبلُ منه قوله من غير برهانٍ موضوعي، وإنما يرده إلى مجتمع مشاهدٍ يعيش معهم فقد الاستفادة من النصوص ولم تغنِ عنه شيئاً حين أهمل النظر إلى الواقع، وأكثر من ذلك أنه يعرض الموضوع كقانون وسنة اجتماعية في المجتمعات التي تفقد التعامل مع الوقائع الموضوعية، وتتمسك بالنصوص وكلماتها ودلالاتها من غير التفات إلى موضوعاتها. فالكلمات تقبل أن تحمل أو لا تحمل، فكلمة السماء والأرض بقيتا كما هي في كل لغات العالم، مع أن معانيهما وما يخطر في بال الناس عنهما تغيرت، وسأحاول إيضاح الموضوع ببعض الأمثلة، كيف أن المجتمعات تتلاعب بالنصوص، بل وعندها القدرة على حذف بعض النصوص من التداول، أو أن يكون لها أي معنى، وتخلق نصوصاً جديدة أو تعيد المعنى القديم أو تُحدثُ معنّى جديداً للنصوص القديمة، لأن المشكلة ليست مشكلة نصوص، وإنما مشكلة فهم وتفسير وتعامل مع ظواهر الوجود، من فلك وحياة وإنسان ومجتمع وتاريخ. فالنصوص التي عَبّرت عن هذه الظواهر ليست هي الوقائع ذاتها، فالنص، والكلمات، والحروف من مخلوقات الجهاز العصبي، هي رموز لتداول المعلومات كما خلقت المجتمعاتُ (العِملةَ) وهي لا معنى لها، ونحن باتفاقنا نعطي لها قيمة لتداول السلع، وكذلك حين نكتب عليها (في الله ثقتنا) ولكن لا تزال ثقتنا في العضلات وليست في الجهاز العصبي، وفي الذهب وليست في الله.
« يا مراؤون حسناً تنبأ عنكم أشعياء قائلاً: يقترب إلي هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً » متى (15: 7).
كأن هذا الجهاز العصبي لا ينادي:
« ألعل الحكمة لا تنادي، والفهم ألا يعطي صوته: أنا الحكمة أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير … ثمري خير من الذهب ومن الإبريز وغلتي خير من الفضة المختارة، في طريق العدل أتمشى » أمثال (8: 12 - 19).
« طوبى للأمم الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم لأن تجارتها خير من الفضة وربحها خير من الذهب الخالص … وكل جواهرك لا تساويها.. وكل مسالكها سلام، الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السموات بالفهم، يا بني لا تبرح هذه من عينك … فيكونا حياة لنفسك ونعمة لعنقك … إذا اضطجعت فلا تخاف بل تضطجع ويلذ نومك » أمثال (3: 21 - 24).
فإذا نحن فرقنا بين الصور التي داخل جماجمنا وبين الوقائع الخارجية، وفهمنا نوع العلاقة بينهما، وعرفنا الميزان الذي تزن به صحة ما في أذهاننا، نكون اقتربنا من حل المشكلة الإنسانية. وإذا تمكنا من تلقين الأجهزة العصبية البشرية، بموازين أو مراجع أكثر موثوقية وأقرب إلى الموضوعية، نكون وضعنا الإنسان على طريق لا نقول الحق - بسبب المعنى الجامد.. الذي اتصفت به كلمة الحق - ولكن نقول: الأنفع لمدة أطول.
إذن لابد للبشرية من أن تعزل النصوص عن السيادة، لتتحول السيادة إلى الوقائع التي قوانينها خارج أذهان البشر، ومراجعتها دائماً بالعودة إلى الموضوعات وعواقبها، فإذا فهمنا النص على هذا الأساس، وهو أن النصوص حاملة المعنى وليست المعنى، عند ذلك يمكن فهم معنى الإيمان بأن الكون ليس باطلاً، بل سيرى الإنسان الكون إبداعا مكافئاً لاستثارة حب الاستطلاع والتسخير عند الإنسان، إن مشكلة العالم الإنساني هي في معاناة التكيف مع التاريخ الذي يسبق الإنسان ويتخلف عنه الإنسان. وهذا راجع إلى أن سير المعرفة تلقائية وليس مسيطراً عليها. والمعرفة في طريقها إلى ممارسة هذا التدخل، إن الأنبياء عرفوا كيف يستفيدون من طبيعة الجهاز العصبي الإنساني في فهم معنى الوجود بينما المثقف - وريث الأنبياء - لم يتكيف بعد، فقد ضيع المثقف معنى المقدس والخير في الوجود، علينا أن نتنافس في ابتكار الأسلوب الأبسط والاقتصادي لنقل الذين عندهم قدرة على تأمل الموضوعات إلى حالة الوعي، حتى نصنع الخميرة البشرية التي ستجدد النموذج الإرشادي، على الطريقة التي يعرض بها (توماس كوهن) في بحثه للعلاقة ببين النماذج الإرشادية، في كتابه (بنية الثورات العلمية).
فمشكلة الأمم المتحدة مع العالم المتفرقة في الغرب والشرق: مستويات في التكيف مع العالم الجديد الذي تطورت إمكاناته، وتخلقت قدرته على التكيف مع العالم الذي يتسارع في تقديم وسائل تقنياته، ولا يتمكن من متابعة التطور. فالأمم المتحدة تعاني قصور التكيف مع العالم، أما الدستور الأمريكي فهو للتعامل الداخلي، وغن كان لهذا الدستور مشاكله الخاصة فهو غير الأمم المتحدة.
كذلك العالم الإسلامي يعاني مشكلة التكيف مع هذا العالم المتطور، فلا يتمكن من الاهتداء إلى أسلوب التعامل معه، فيلعب لعبة فات أوانها حيث الجميع يلعبون لعبة عدم التكيف مع العالم، حتى في مستوى التسلح، فقد فات جدوى حل المشكلات بالتسلح في العالم فيلعبون لعبة كتم المعلومات، أو يستغلون عدم وصول المعلومات حين يبيعون وحين يشترون سلعة فقدت مفعولها ونفعها. لا يوجد وعي في العالم ولا من يريد أن ينشر الوعي، بل من يستغل فقدان الوعي.
كما نحن نعجز عن دراسة النصوص، لأننا نجهل التعامل مع موضوعات النصوص، ولا تزال السيادة للنصوص بدل الوقائع. كذلك نقع فغي الوهم في تفسير الموضوعات والأحداث بنفس الخطأ في النصوص: فمثلاً ظاهرة اليابان والاتحاد السوفيتي وعوامل الاتحاد الأوربي، فصعود اليابان وتمزق الاتحاد السوفيتي وعوامل الاتحاد الأوربي وبروز جزر في جنوب شرق آسيا، يختلف الناس في إيجاد أسماء لها، كل ذلك يدل على أن الذكاء الإنساني أو الجهاز العصبي هو الذي له السيادة، لا العضلات ولا السكاكين ولا القنابل. هذا واقع غير مرئي ومن الذي ستمكن من جعله مرئياً لكل الناس ؟ أمّا ظَنُّ أنَّ عضلات أمريكيا تمكنها من السيطرة على العالم فخداع، تقبله أمريكا وكأنها تحرص على استمرار هذا الوهم، ولا تشعر أن هذا أمر مخجل.
في الإنجيل يصف عيسى عليه السلام بأن الباب ضيق والطريق مكرب:
« ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون الذين يجدونه » متى (7: 14).
ولكن القرآن يذكر موقف موسى من السامري:
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداًَ لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) ] طه: 20/88 [.
قال له موسى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً..) ] طه: 20/95-97 [.
إن المثقف الذي أوكِلَ إليه دورُ النبي لم يقم بعد بدوره، وبم يتمكن وعي جهازه العصبي بالتاريخ أن ينطق بكلمات موسى. انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً.
(محمد إقبال) ألف ديواناً بعنوان (ضَرْبُ الكَليم) وإعلان الحرب على العصر الحاضر. إنه كان يهجس بمشاكل العصر ويحلم بالمثقف الذي يقوم بدور موسى، ليس بالتجديف على الأنبياء ولكن بتحليل العصر الحاضر ليزلزل مسلماته ويعريه من تمويهاته المقنعة.
زارتني فتاة متخرجة من مؤسسة ثقافية عالية، تريد أن تعرف فيما إذا كان السحر موجوداً، حيث تظن أن حماتها سحرتها، فقلت لها: نعم إن السحر حقيقة موجودة وعالمية، ومثقفو العالم هم الذين يقومون بهذا السحر حين يتركون الناس في سحر القوة العنيفة، ولا يكشفون أن هذه القوات العنيفة، من حبال وعصي، قدت مفعولها مهما خيل للناس أنها تسعى، والقرآن يصف سحرة فرعون بأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، ليسحروا بها الناس.
(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) ] طه: 20/66 [.
وفي مكان آخر يصف القرآن هذا المشهد ويقول:
(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) ] الأعراف: 7/116 [.
ذكرت قبل قليل أن النبي محمداً (ص) قال: إن الناس إذا فقدوا العلم لا ينتفعون مما في الكتب بشيء، إن القرآن يرفع من معنى الأمي بأنه ليس الذي لا يعلم القرآن، ولكن الذي يقف عند حروف الكلمات:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلأَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلأَّ يَظُنُّونَ) ] البقرة: 2/78 [.
وكان القرآن والنبي محمداً (ص) يعلمان الناس، انه لا يجوز استخدام العنف لصنع مجتمع المساواة، ومجتمع كلمة السواء، وأن مجتمع كلمة السواء لا يجوز له أن يستخدم العنف، إلا مع الذين يقتلون الناس ويهجرونهم من ديارهم من أجل عقائدهم، عن لم يمكن منعهم بغير قتال.
وكل عنف يحدث خارج هذه الشروط فهو شريعة غاب، الحق فيه للعضلات وليس للجهاز العصبي، وأن العنف بغير هذه الشروط يحول الحياة كلها إلى عبادة الطاغوت، وهو خروج من عبادة الله التي هي مهمة كل الأنبياء:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ] النحل: 16/36 [.
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) ] البقرة: 2/257 [.
وهناك كلمات من النبي محمد (ص) وفق هذه الشروط، من أنه يقدس السلاح مرة إلى درجة أنه يقول: « إن الله لَيُدخِلُ ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ بالسهمِ الواحدِ، صانِعهُ وحامِلَهُ والرامي به ». وذلك حين تتوفر الشروط، وفي مقابل ذلك حديث يأمر بنزع وإتلاف السلاح من طرف واحد ويأمر بالتخلص منه، ويقول أيضاً: وإذا حدث قتال خارج هذه الشروط لا تشارك فيه - وهو قتال الفتنة والبغي في مصطلحات الفقه - ويقول عند ذلك: اِكسر قوسك واقطع وتره واضرب سيفك بالحجارة واكسره وإن أمكنك أن تفر إلى الجبال أو الصحارى مع إبلك وغنمك أو زراعتك فافعل، فقال له صاحبه: يا رسول الله إن لم يكن عنده ما يلجأ إليه ؟ قال يلزم بيته ويغلق على نفسه بابه، فقال له صاحبه: يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني، فقال له رسول الله (ص) كن كابن آدم الذي قال لأخيه: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. وقال الرسول: وإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه.
عصر الفتن
الأحاديث الواردة تحت هذا العنوان مأخوذة من مختصر سنن أبي داوود للحافظ المنذري، طبعة السنة المحمدية (1369هـ 1949م، صفحة 142 ج6 بأرقام 4090 - 4091 - 4093 - 4095) على التوالي:
1- عن مسلم بن أبي بكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
« قال رسول الله (ص) إنها ستكونُ فتنةٌ يكونُ المضطجعُ فيها خيراً من الجالس والجالسُ خيراً من القائمِ والقائمُ خيراً من الماشي والماشي خيراً من الساعي.
قال: يا رسول الله ما تأمُرُني ؟
قال: من كانت له إبلٌ فليلحق بإبله، ومن كانت له غَنمٌ فليلحق بغَنَمٍه، ومن كانت له أرضٌ فليلحقْ بأرضه.
قال: إن لم يكن له شيء من ذلك ؟
قال: ليعمد إلى سيفهِ فليضرب بحدهِ على حرّهٍ ثم لينجُ ما استطاع النَّجاء ».
أخرجه مسلم وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي المسيب وأبي سلمة بنحوه.
2- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي (ص) في هذا الحديث.
قال يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ! فقال رسول الله (ص): « كن كابن آدم وتلا يزيد - يعني ابن خالد الرملي - (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) ] المائدة: 5/28 [.
3- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص):
« إن بين يَديَ الساعةِ فِتَناً كقطعِ الليلِ المظلم يصبحُ الرجل فيها مُؤمناً ويُمسي كافراً ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً، القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ والماشي فيها خيرٌ من الساعي فاكسِروا قِسِيَّكُم واقطعوا أوتاركُم واضربوا سُيوفكم بالحجارةِ فإن دُخِلَ - يعني على أحد منكم - فليكُن كخيْرِ ابْنَيْ آدم ».
4- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): « يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك - وذكر الحديث - وقال فيه:
كيف أنت إذا أصابَ النَّاس موتٌ يكون البيتُ فيه بالوصيف ؟ » قلت: الله ورسوله أعلم أو قال ما خَار اللهُ لي ورسوله، قال: « عليك بالصَّبرِ » - أو قال تصبر - ثم قال « يا أبا ذر » قلت: لبيك وسعديك قال ما خارَ اللهُ لي ورسولهُ، قال: « عليك بمن أنتَ منه » قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضُعهُ على عاتقي ؟ قال: شاركتَ القوم إذن » قلت: فما تأمرني ؟ قال: « تَلزَمُ بيتكَ » قلت: فإن دخَلَ عليّ بيتي ؟ قال فإن خَشيتَ أن يبهركَ شعاعُ السيف فألقِ ثوبكَ على وجهك يَبُؤ بإثمك وإثمه » أخرجه ابن ماجة.
قلت سابقاً إن الثقافة الإسلامية كلها كتبت ماعدا القرآن، بعد أن فقد المسلمون الرشد، أي الحكم الراشد، وفقدوا قبلها المجتمع الراشد أو الأمة الراشدة. وقد سجل القرآن هذا قبل وفاة الرسول، حين بدأ المجتمع الإسلامي يتوسع، فدخل الناس فيه ليس إيماناً به وفهماً له وغنما استغلالاً له. فهذه الثقافة الإسلامية المتكيفة مع الغي والطاغوت، ألغيت شروط حمل السلاح ودخلت إلى مجتمع الطاغوت. ولهذا فهذه الثقافة الإسلامية مع غناها وسعتها، لم أجد بحسب اطلاعي، مسلماً واحداً كتب مبيناً الحالة التي يجب فيها على المسلم أن يكسر سلاحه ويتخلص منه، كما لم أعثر على كتاب واحد أو كاتب واحد استشهد بحديث (كن كابن آدم أو اكسر سفك أو اكسر قوسك واقطع وتره). وكل الباحثين المستشرقين والمتخصصين في الإسلاميات لا يستطيعون أن يفهموا شيئاً خارج هذه الثقافة المتكيفة مع الطاغوت، ولا يستطيعون أن يكشفوا المنهج الذي جاء به الأنبياء وسجلته الكتب المقدسة.
وقد خف عجبي أيضاً حين رأيت عجز الثقافة الغربية في التكيف مع دعوة المسيح، وفهمت عند ذلك قول النبي محمد (ص). من أن الناس إذا فقدوا العلم وقراءة أحداث التاريخ، فلا ينتفعون بشيء مما في الكتب، فيضيع معنى الرموز الكتابية حين نعجز عن قراءة الأحداث التاريخية، وتتبخر كل دعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب، حين نتوهم أننا نستطيع أن نحتفظ بمكانتنا في العالم، بالرعب وليس بالمعرفة، بالقهر وليس بالرحمة.
قول الرسول في القصاص: « إن قَتَلهُ فهو مثلُه »
قال صحابي: إني لقاعد مع النبي (ص) إذ جاء رجل يقود آخر بِنَسْعةٍ فقال: يا رسول الله هذا قَتَلَ أخي، فقال رسول (ص): « أَقَتَلْتَهُ » ؟ فقال إنه لو لم يعترف أقمتُ عليه البَيِّنة. قال: نعم قَتَلْتُه، قال: « كيف قَتَلْتَهُ »، قال كنت أنا وهو نَخْتِبِطُ من شجرةٍ فَسَبَّني فأغضبني فضربتهُ بالفأسِ على قَرْنِه فقتلتُهُ، فقال له النبي (ص) « هل لك من شيء تُؤدِّه عن نفسك » ؟ قال: مالي مالٌ إلا كسائي وفأسي، قال: « فترى قومكَ يشترونكَ ». قال أنا أهَوَنُ على قومي من ذاك فرمى إليه بِنَسْعتِه، وقال: « دونَك صاحبك »، فانطلقَ به الرجلُ فلما ولى، قال رسول الله (ص): « إن قَتَلَهُ فهو مثلُه »، فرجعَ فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك قلت: عن قَتَلَهُ فهو مِثْله، وأخذتُه بأمركَ فقال رسول الله (ص) « أما تريدُ أن يبوءَ بإثمكَ ولإثمِ صاحبكَ » ؟ قال: يا بنيَّ الله، لعله قال: بلى قان ذاكَ كذاكَ، قال فرمى بِنَسْعتِه وخلَّى سبيلهُ، رواه مسلم في كتاب القسامة والقصاص والدِّيّاتِ.
وكذلك حديث « ما زاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عزاً » مسلم في كتاب البِّرِ والصِّلة.
فهذا الحديث يجعل القصاص أيضاً مرحلياً ؛ إذا ارتفع وعي الناس ينسخ القصاص تلقائياً. والذي أريد أن أنبه إليه الآن في هذه المقالة، ليس أن أدافع عن ثقافة معينة وغنما أن نتلمس مشكلة الإنسان، ومشكلة تحصيل المعرفة، والخروج من العنف، والخروج من وهم أن العنف يمكن أن يحل المشكلات، لقد وصلنا إلى الطريق المسدود، رجعنا إلى لحظة ابني آدم القاتل والمقتول ؛ إلى لحظة بزوغ الإنسان في الوجود، إلى ارتفاع مكان الدماغ على العضلات ووظيفة الدماغ على وظيفة العضلات، وحتى لا تقوم العضلات بإسكات الدماغ وحتى يتحرر الدماغ من هيمنة العضلات. ولن يتحرر الدماغ، إن لم يكتسب ويكتشف معرفة تاريخية، يفهم منها كيف بدأ وكيف تعمقت المعرفة الإنسانية، وكيف يمكن أن تتعمق أكثر..
(فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) ] الطارق: 86/5 [.
(سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) ] العنكبوت: 29/20 [.
فإذا عرفنا كيف بدأ سنعرف صيرورته وما سينتهي إليه.
منظمة الصحة العالمية أصدرت كتاباً صغيراً بعنوان (حقائق عن الحياة) شارك في وضعه منظمات واختصاصيون عديدون. موضوع الكتاب، كل أسبوع يموت ربع مليون طفل في العالم، وهؤلاء الاختصاصيون لما حللوا المشكلة، وجدوا أن أسباب الوفاة يمكن حصرها في عشرة أمراض، صارت معروفة وكلفة المعالجة ليست غير محتملة. ولكن المشكلة التي واجهها الاختصاصيون هي كيفية إيصال المعلومات إلى الأمهات اللاتي يشرفن على الأطفال، وهن يجهلن هذه المعلومات. وقالوا في مقدمة الكتاب: إن حل هذه المشكلة يتوقف كما في سائر مشكلات التوعية، على وصول هذه المعلومات بطرق مبسطة، ومن مصادر متعددة ومكررة، فكأن المشكلة مشكلة غرس القناعة عند الناس ليتغير سلوكهم، متى سيضع الاختصاصيون كتاباً من هذا النوع، في تحديد عدد الأمراض التي تؤدي إلى سفك الدماء، وتهجير الناس بالملايين في العالم ؟ ومتى وكيف يمكن إيصال هذه المعلومات إلى الأمهات، اللاتي يغرسن في نفوس الأطفال القيم التي يعيش بها الناس في حياتهم ؟ وما نوع وكمية الجهد الذي ينبغي أن أبذله فيما يخصني أنا في هذا الموضوع، الذي يُتْرك للتطور التلقائي بدل أن يخضع للتسريع، الذي يمكن أن يقوم به تدخل الوعي. وأنا حاولت في بحثي هذا أن أسلط الضوء على مرضٍ واحدٍ، أجمع الأنبياء على اعتباره نجاة للبشرية إن أمكنها السيطرة عليه، وبقية الأمراض قابلة للغفران، ولكن الذنب الذي لا يغتفر هو الخطأ في تفسير الإنسان ؛ بأن السلوك الاقتصادي معه في قهره وإكراهه والتسلط عليه، وليس بالعدل والإحسان إليه. والخطأ في التفسير ناتجٌ عن الخطأ في فهم العدل، والظن أن العدل خسارة أو أن المساواة خسارة، وهذا الفهم والتفسير الشيطاني وليس الإنساني، الذي هو الكبرياء والتعالي.
« قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح. تواضع الروح مع الودعاء خير من قَسْمِ الغنيمة مع المتكبرين » أمثال (16:18 - 19).
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ] الشعراء: 26/88 - 89 [.
ولن يسلم القلب، إلا إذا خرجت منه الكبرياء والامتيازات وغلا إذا قبل أن المسألة مسألة رياضيات ومعادلة حسابية، وأن المعادلة لن تحل إلا إذا تساوى الأطراف، وهل يمكن إزالة الخوف من فقدان الامتيازات، هذا الخوف يأكل قلبه، كما يأكل قلب فاقد الامتيازات التطلع إلى الحصول عليها لا إلغائها ؟.
ومن لم يصدق فليستمر في التجربة، ولن يثمر الشوك عنباً ولا الحسك تيناً، هذا ليس موعظة، وإنما هو تعامل واقعي أرضي ملموس، وبفهم هذا تتعانق الأرض مع السماء، وتتحول المعرفة إلى الإيمان، والإيمان إلى معرفة، ولن يشعر الإنسان بالراحة غلا إذا فهم هذا فهماً علمياً فتحصل الطمأنينة في القلب، ولا يعرف هذا من لم يصل إليه بالعلم والفهم، ومن لم يفهم الآن فستقنعه الأيام، وهناك سيشعر رغماً عنه كم كان في شقاء الوهم، وكم هي المعرفة صحة نفسية، وكم هي المعرفة كلما زادت اتسعت وفتحت آفاقاً أرحب، وكم هي ثمرة شجرة المعرفة حياة للنفس.
« ولَهيبِ سيفٍ مُتقلبٍ لحراسةِ طريقِ شجرةِ الحياة » تكوين (3: 24).
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ) ( الزمر: 39/9 ) .

10/1/1997م مونتريال
جودت سعيد






آخر تعديل المحامي عارف الشعَّال يوم 20-10-2009 في 08:28 AM.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قانون العقوبات الاقتصادية المحامي خالد بلال موسوعة التشريع السوري 0 28-05-2008 03:27 AM
*************** زنا *************** المحامي حيدر سلامة أهم الاجتهادات القضائية السورية 0 30-11-2006 10:30 AM
حقوق الإنسان للدكتور جودت سعيد الدكتور جودت سعيد أبحاث في حقوق الإنسان 0 31-05-2006 10:58 PM
قانون المواد المدنية والتجارية القطري رقم 16 لسنة 1971 المحامي محمد فواز درويش قوانين دولة قطر 0 03-12-2004 05:23 AM


الساعة الآن 04:24 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Nahel
يسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر>>>جميع المواضيع والردود والتعليقات تعبر عن رأي كاتيبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة المنتدى أو الموقع