منتدى محامي سوريا

العودة   منتدى محامي سوريا > المنتدى الفقهي > أبحاث قانونية مختارة > أبحاث في القانون الجنائي

إضافة رد
المشاهدات 15835 التعليقات 0
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-12-2007, 06:37 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
فهر عبد العظيم صالح
إحصائية العضو






آخر مواضيعي



افتراضي نحو عولمة العدالة الجنائية- رؤية بين الواقع والمأمول

بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون)

صدق الله العظيم
(سورة البقرة الآية 30)


الفهرس
تمهيد وتقسيم
المبحث الأول: المقصود بعولمة العدالة الجنائية
*أولا : مفهوم النظام العالمي وتطوراته
*ثانيا : التنظيم الدولي
المبحث الثاني: عولمة التشريع الجنائي
المطلب الأول: مراحل تطور القانون الدولي الجنائي نحو العولمة
*المطلب الثاني: سمات اكتمال التشريع الدولي الجنائي : في ظل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
المبحث الثالث: عولمة القضاء الجنائي
المطلب الأول: محاكمات الحرب العالمية الأولى
المطلب الثاني: محاكمات الحرب العالمية الثانية
الفرع الأول: محكمة نورمبرج عام 1945
الفرع الثاني : محكمة طوكيو ( 1946) " I.M.T.F.E"
الفرع الثالث: مدى تحقق عولمة القضاء الجنائي في ظل محاكمات نورمبرج وطوكيو
المطلب الثالث: المحاكم الخاصة - النشأة بقرار من مجلس الأمن
الفرع الأول: المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة
الفرع الثاني: المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ICTR
الفرع الثالث: هل تعتبر محكمتا مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة ورواندا من آليات العولمة القضائية الجنائية ؟
المبحث الرابع: المحكمة الجنائية الدولية كآلية دائمة للعولمة القضائية الجنائية
النظام الأساسي للمحكمة هو معاهدة دولية
حدود سلطة المحكمة الجنائية الدولية على الدول غير الأطراف في نظامها الأساسي
كيفية إحالة الدعوى للمحكمة الجنائية الدولية
مدى تحقق ضمانة استقلال القضاء الجنائي الدولي
مدى تحقق العولمة القضائية في ظل المحكمة الجنائية الدولية
خاتمة البحث : والرؤية المأمولة لعولمة العدالة الجنائية
المراجع
*
*
تمهيد وتقسيم
ما فتأت العدالة حلماً وأملاً يراود البشرية منذ بدء الخليقة فما زالت هي ضالتها وغايتها المنشودة، لذا أفنى الفلاسفة والمفكرون حياتهم لإيجاد سبل تكريسها بعدما وجدوها سبب استتباب الأمن والسلم في حياتهم. ولعل جهود هؤلاء الفلاسفة والفقهاء لم تكن للاعتراف بالعدالة وإنما لإيجاد الآليات التي تكفل تكريسها. والناظر إلى مراحل نشأة وتطور أنماط المجتمع بدءاً من الأسرة كصورة بدائية ونواة أولية للمجتمع وحتى نشوء الدولة بالصورة الحالية يدرك أن آليات العدالة تطورت بتطور أنماط المجتمع. وحيث كانت الأسرة هي النواة الأولى فعرفت فيها السلطة الأبوية كسلطة تسهر على إعمال العدالة بين أفرادها وهكذا مروراً بالعشيرة ثم القبيلة حتى ظهرت الدولة بمفهومها الحديث.
*
وتطور الفكر القانوني حتى استطاع أن يقف على آليات إنفاذ العدالة وبسطها على ربوع الدولة وتمثلت تلك الآليات من خلال مثلث ذي ثلاث شعب أما الشعبة الأولى فهي شعبة التشريع إذ كان حتماً وضع القواعد القانونية الآمرة والملزمة والمخاطبة لأفراد مجتمع الدولة وسن القوانين في صورة (إفعل ولا تفعل) ورصد العقوبات جزاءاً لخرق تلك القواعد. وأما الشعبة الثانية من شعب آليات العدالة على صعيد الدولة فتمثلت في شعبة القضاء الذي يمثل أمامه أصحاب الحقوق والمظالم والظالمين أو المعتدين ليقتص للمظلوم من الظالم بحيدة وتجرد حتى يرد الحقوق لأهلها فيرتدع كل من تسول له نفسه الاجتراء على الحرمات التي صانتها القوانين ويزجر من انتهكها بجرمه. أما المحور أو الشعبة الثالثة فكانت سلطة التنفيذ التي تكفل إنفاذ ما حكمت به المحاكم وما أمرت لتكون بمثابة عصاً في يد العدالة تضرب على يد الآثمين وتروع من يقدم على المساس بسلامة المجتمع وتحقق هيبة القضاء وحرمة القانون. وبارتسام أضلاع هذا المثلث على ربوع الدولة تحقق أمن المجتمعات واستقرار الدولة وأنظمتها. وقد عاش المجتمع الدولي طويلاً ينعم بذلك حتى لاحت في الأفق الجريمة عابرة الحدود ومتعديه الأنطقة الدولية تلك الجريمة التي لم تهدد أمن مجتمع الدولة فحسب بل نالت من أمن وسلامة المجتمع العالمي بأسره فتجاوزت بمخاطرها حدود الدولة ووقعت الإنسانية بآسرها ضحية لها فكان لزاماً إيجاد آليات أكثر تطوراً تلائم تلك الجريمة الدولية.
*
ولقد أتى على الجماعة الدولية حين من الدهر لم تكن تعرف شيئاً يسمى بالجريمة الدولية حينما لم تكن تتعدى الجريمة حدود الدولة الواحدة وبالتالي فلم يعبأ الفقهاء بالتفكير في إيجاد مدونة عقابية تقوض تلك الجريمة وتستهدفها وتحض على احترام الإنسانية وكرامتها بغض النظر عن الفوارق الدينية أو العرقية أو الطائفية أو الجنسية ولكن ازدياد وتيرة العنف والتناحر والصراع على الصعيد الدولي وسقوط الضحايا تلو الضحايا من الأبرياء تحت رحى الحروب وجرائمها أدى إلى بزوغ فكرة القاعدة الجنائية الدولية في أذهان الفلاسفة والفقهاء بيد أن تباعد الأوطان وعدم سهولة الانتقال بينها واختلاف ألوان وثقافات وديانات ولغات البشر كانت عقبات في سبيل تقنين مدونة عقابية ذات طابع وصبغة دولية.
لهذا عاشت البشرية عقوداً سحيقة تحت وطأة الحروب وما يرتكب إبانها من جرائم ومذابح وفظائع حتى أشرقت الأرض بنور الشريعة الإسلامية الغراء فإذا بها تنقل البشرية من غياهب الظلمات إلى النور وتضعها على محك حضاري غير مسبوق على مر العصور فرسخت مبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان وجرمت كل ما ينال من أمنه وكرامته سواء في السلم أو في الحرب ووضعت حداً فاصلاً بين الاعتداء بغير الحق وبين الحرب المشروعة وسنت القوانين التي تكفل أمن الأبرياء والشيوخ والأطفال والنساء والأسرى أثناء الحرب حتى أنها لم تغفل حماية الأشجار والبيئة في أتون الحروب فجرمت قطعها أو حرقها بغير مبرر ولعل النصوص القرآنية الدالة على ذلك كثيرة ومنها قولها تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [1] ومنها قوله تعالى ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [2] ومنها ما يناهض الحرب غير المشروعة، والبغي بغير حق فقال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [3].
لكن الإنسان بجهله وظلمه نبذ أحكامها بعد ذلك فتقهقر متخلفاً عنها بمراحل سحيقة فلم يهتدي الفكر البشري لقاعدة دولية جنائية سوى في نهاية القرن الثامن عشر في أعقاب هزيمة نابليون بونابرت حيث بزغت فكرة الحرب غير المشروعة عندما انعقد مؤتمر فينا سنة 1815. والذي قررت فيه الدول المنتصرة مسئولية نابليون في الحروب التي أثارها، وقررت ذلك باسم القانون والنظام العالمي ووصفت نابليون بأنه مثيراً للحرب غير المشروعة وعدو السلام حيث انتهى الرأي إلى اتخاذ تدبير وقائي ضده هو نفيه لجزيرة سانت هيلانه [4].
وفي أعقاب ذلك وخلال القرن التاسع عشر نشبت الحروب تلو الحروب غير أن الدول لم تجد صعوبة في اتخاذ فكرة المصلحة تكئة لها عما ترتكبه من جرائم في أتون تلك الحروب غير المشروعة تلك الفكرة التي ساقها المفكر ميكافلي (1469 – 1527) و بودان (1530 – 1596) وهوبز (1588-1627) قائلين بأن مصلحة الدول تبرر كل مسلك لها وأن الحاكم لا يمكن أن يخطأ لأن سلطته مطلقة [5].
واستمر عقد الأمن والسلم الدولي في انفراط لا يتوقف فما أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى نشبت الحرب العالمية الثانية وحاول المجتمع في أعقاب كل واحدة محاكمة مجرميها فتشكلت محكمة جنائية دولية في نورمبرج وأخرى في طوكيو لتصدر كلاهما أحكاماً بالإعدام، والسجن دون مدونه عقابيه ترخص في ذلك فكان الطعن بعدم مشروعية أحكامها، وكل ما في الأمر أن وضعت هاتين المحكمتين مبادئ عامة كانت بمثابة النواة للقانون الدولي الجنائي. *ثم مرت الساحة الدولية بالعديد من الأحداث والفظائع التي راح ضحيتها أعدادا تستعصي على الحصر واستمرت الجهود لإيجاد آليات تقويض جرائم الحروب فتشكلت محكمة يوغوسلافيا السابقة ثم محكمة رواندا بيد أن الانتهاكات لم تنقطع فتوالى انتهاك كرامة الإنسان وآدميته على يد الأمريكان في معتقل جوانتانامو وفي سجن أبو غريب في العراق وعلى صعيد آخر كانت أحداث دارفور بالسودان والإنسان هو الضحية.
ولأن فكرة حماية حقوق الأبرياء ضحايا الحروب كانت ولا زالت معقل الاهتمام وقطب الوحى فقد آل المطاف بالجماعة الدولية إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لتكون أول آلية قضائية جنائية دولية دائمة نحو تحقيق العدالة الدولية المنشودة ولتكون أولى شعب عولمة التنظيم الجنائي الذي ننشده. *ولكنه من نافلة القول أن هذه المحكمة بذاتها لا تكفي لتكريس العدالة على الصعيد الدولي تلك العدالة التي لا سبيل لتحقيقها إلا إذا اكتملت أضلاع مثلث عولمة العدالة الجنائية الذي هو أملنا في هذا البحث. *فإذا كانت وبحق المحكمة الجنائية الدولية هي أولى محاور هذا المثلث فإن له محورين آخرين لابد من ارتسامهما، أما الأول فهو المحور التشريعي الجنائي الذي يحقق عولمة التشريعي الجنائي وأما الثاني فهو آلية التنفيذ الدولية.
ونحسب أنه لا سبيل لعدالة جنائية تعم ربوع المعمورة بغير تحقق هذه العولمة واكتمال آلياتها الثلاثة وإذا كنا بصدد الحديث عن العولمة فإنه لزاماً علينا أن نتعرض في مبحث أول لظاهرة العولمة ومفهومها والمقصود بالنظام العالمي، والتنظيم العالمي. ثم نخصص مبحثا ثانياً لأولى محاور آليات عولمة العدالة الجنائية وهو محور التشريعي الجنائي الدولي. *وفي المبحث الثالث نتعرض للمحور الثاني المتمثل في آلية القضاء الجنائي الدولي. *والمبحث الرابع نخصه لاستعراض المحكمة الجنائية الدولية التي توجت جهود الفقهاء لنقف على مدى تحقيقها للآمال التي كانت معقودة عليها في تحقيق عدالة جنائية دولية من عدمه.
ونختتم البحث بما نأمله ونراه محققا لموجبات هذه العدالة على الصعيد الدولي.
*

المبحث الأول
المقصود بعولمة العدالة الجنائية
أصبحت العولمة كلمة تفرض نفسها في شتى المجالات وتناولتها الصحف والإعلام بمزيد من الاهتمام وهي مصطلح له وزنه على الساحة الدولية يرتبط بالنظام العالمي والتنظيم الدولي سواء كان ذلك التنظيم العالمي متعلقا بالتجارة الدولية أو الاقتصاد أو التكنولوجيا ونقلها أو بالعدالة الجنائية ومن ثم كان لزاما علينا الإلماح إلى مفهوم النظام العالمي ثم مفهوم التنظيم الدولي حتى يتضح المقصود بعولمة التنظيم الجنائي.
*
أولا: مفهوم النظام العالمي وتطوراته
(أ) مفهوم النظام العالمي
إن تعريف كلمة (النظام) لغويا هو (النمط أو الأسلوب) وإذا تعودت جماعة معينة على نمط معين وأسلوب معين وعاشت في كنفه فترات طويلة من الزمن ودون انقطاع أصبح هذا النمط أو الأسلوب (منهجاً أو واقعاً) وإذا قنن هذا المنهج بلوائح وقواعد قانونية، فإنه يصبح التزاما، كما أن هناك من الأساليب والأنماط التي يجب الاعتداد بها وعدم مخالفتها دون تقنين وهي ما تعرف بالنظام العام، وقياسا على ذلك فإن النظام العالمي ينظر إليه على أنه النمط أو الأسلوب أو النهج السائد في العالم أو بين البشرية على امتدادها في حقبة معينة من الزمن، وإذا كان الواقع يوحي بأنة ما يسود بين البشر من تعاملات ومناهج متعددة الأنماط منها الاقتصادي – الثقافي – الحضاري – السياسي – العسكري – الديني، فإنه استنادا إلى ما تقدم يمكن تعريف النظام العالمي – وفي أبسط صوره (بأنه النمط أو الأسلوب أو النهج السائد بين البشرية أو بين العالم في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية من تعامل أو تباعد وتقارب وتجاذب وتنافر وحرب وسلم، وفي حقبة معينة من الزمن تبدأ مع بداية ظهور أسلوب ونظام معين وتنتهي بنهاية هذا الأسلوب أو النظام وظهور نظام جديد) [6].
*
ب) تطور النظام العالمي في العصر الحديث
لقد مر النظام العالمي بالعديد من التحولات المتداخلة خلال العصور المختلفة التي قسمها علماء التاريخ إلى ثلاثة عصور رئيسية: العصر القديم – العصور الوسطي – العصر الحديث حيث تدرجت ملامح النظام العالمي من الأنظمة القبلية والإقليمية إلى الأنظمة الإمبراطورية ثم ظهور الدويلات والوحدات السياسية وصولا إلى الدولة القومية في العصر الحديث ذلك العصر الذي نخصه بإلقاء الضوء على ما شهده من مجريات تطور للنظام العالمي. *ففي العصر الحديث وبداية من عام 1500م كانت بداية استمرار عصر النهضة واستمرار الإقطاع ثم الرأسمالية الأيديولوجية والكشوفات الجغرافية التي تحولت إلى استيطان استعماري واستعمار دول الشرق والأمريكتين المكتشفتين وحلول السلام في أوربا بعد معاهدة فينا وتقليم أظافر الثورة الفرنسية مع استمرار ظهور النزاعات الألمانية الفرنسية ثم الأوربية العثمانية وكانت نتيجتها الحربين العالمتين، وبمناسبة العصر الحديث وفي قرونه الأخيرة ومع اتفاقنا مع الرأي القائل [7] بأن النظام العالمي ظهر وتغير خلال ثلاث مراحل إلا أننا نضيف مرحلة رابعة جديدة إلى مراحل هذه التغيرات حيث جرت عمليات تغير النظام الدولي باستمرار عبر اندلاع حروب شاملة بين الدول الفاعلة في النظام، وعندما كانت الحرب تضع أوزارها كانت تطيح في الوقت نفسه بالمؤسسات الخاصة بالنظام الدولي السابق على الحرب وتضع الدولة أو الدول المنتصرة في الحرب القواعد الجديدة للنظام الذي يعقب هذه الحروب وهي قواعد تنهض على تعظيم مصالح الطرف المنتصر في الحرب وقد حدث ذلك في ثلاث سوابق أو مراحل مسجلة [8]:
*
الأولى: كانت بعد الحروب النابليونية حيث أعاد مؤتمر فينا عام 1815م تشكيل النظام الدولي وتمكن من حفظ الاستقرار لمدة تقترب من القرن وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وذلك عبر صياغة قواعد تحكم علاقات وتفاعلات نظام دولي متعدد الأقطاب وفق مبدأ توازن القوى.
*
الثانية: بعد الحرب العالمية الأولى حيث أعادت معاهدة فرساي عام 1919م تشكيل النظام وظهور معسكرين كبيرين بعد قيام الثورة البلشفية أحدهما شيوعي بزعامة اتحاد الجمهوريات السوفيتية وآخر رأسمالي بزعامة الدول الأوربية والولايات المتحدة وباقي دول العالم إما مستقلة تدور في فلك أحدهما أو مستعمرة تجاهد من أجل الاستقلال وكانت من نتائج هذا النظام – نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى ظهور عصبة الأمم كأول نواه في التنظيم بغرض حفظ الأمن والسلام العالمي إلا أن انسحاب الولايات المتحدة من هيكل النظام الوليد فتح المجال أمام سقوطه مرة أخرى بعد نحو عقدين باندلاع الحرب العالمية الثانية 1939م.
*
الثالثة: بعد الحرب العالمية الثانية عندما بادرت الدول المنتصرة في الحرب ببناء نظام عالمي جديد كانت من أهم نتائجه ثنائية القطبية والحرب الباردة وظهور المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) لتحل محل عصبة الأمم بمبادئ جديدة تعظم سيادة الدول وتجعل من الحرب غير المشروعة جريمة دولية بنية الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين.
*
الرابعة: وهي المرحلة التي بدأت منذ بداية عقد التسعينات بنهاية القرن العشرين والتي جاءت نتيجة انهيار أحد قطبي النظام (الاتحاد السوفيتي) ودون وقوع حرب ومن ثم فقد سقط النظام الدولي السابق – ثنائي القطبين – وبقيت مؤسساته – الأمم المتحدة – ومبادئه التي يجسدها ميثاق المنظمة الدولية.
*
ثانيا: التنظيم الدولي
أصبحت فكرة العالم الواحد مثلا أعلى ينشده المفكرون ويستوحيه دعاة السلام وهذه الفكرة وإن كانت وليدة تغيرات حديثة لحكم روحية قديمة إلا أنها في نفس الوقت تقريراً راسخا لمقتضيات بقاء الجنس البشري ومن ناحية أخرى تعد هذه الفكرة (فكرة العالم الواحد) بالنسبة للإنسانية حقيقة ملحة وأمراً واقعا في الوقت الحاضر نتيجة العديد من التغيرات التي ربطت بين شعوب العالم كافة وعلى نحو غير مسبوق في تشابك المصالح والاشتراك في التعرض للخطر، وسواء اتبعنا أم لم نتبع أحكام الأديان التي توحي بالإخاء الإنساني بين بني البشر، فليس في مقدورنا أن نفر من حقيقة ثابتة تقضي بأننا مرتبطون برباط الإنسانية وإذا سلمنا بوجود عالم واحد تحدده معالم موضوعية فإن الدمار الشامل قد يكون الثمن الذي تدفعه الإنسانية إذ هي أخفقت في إقامة هذا العالم الواحد على أسس ثابتة من المثل العليا السياسية والقيم الروحية والأخلاقية.
ومن هذا المنطلق كان لزاما علينا أن نتعرض لمفهوم التنظيم الدولي حتى يمكننا التوصل إلى فهم المقصود بالتنظيم الجنائي الدولي موضوع البحث.
*
أ) مفهوم التنظيم الدولي
يرى العديد من المفكرين أن التنظيم الدولي هو وسيلة المجتمع الدولي لتحقيق الوحدة العالمية فقد يختلف المخلصون من هؤلاء المفكرين حول الأشكال المختلفة لهذه الوحدة وأي هذه الأشكال يمكن التحقيق أو مرغوب فيه وقد يختلفون أيضا حول وسائل التحقيق وأي هذه الوسائل أدعى إلى الإسراع في إصابة الهدف وتحقيق الغاية حيث أن التشابه المضطرد للعلاقات الدولية قد تتمخض عن منظمات دولية قائمة بالفعل كما أن العالم اليوم منهمك في إجراء تنظيمي واسع النطاق، تنظيم له ماضي لا يعد طويلا بقياس المؤرخين إلا أنه أمر لا يمكن تجاهله وينظر إليه البعض على أن مستقبل الإنسان في هذا الكون مرتبط إلى حد بعيد بمستقبل التنظيم الدولي.
وغاية التنظيم الدولي في وضعه الراهن هي محاولة تهيئة قواعد العلاقات الدولية ونظمها وإجراءاتها لكي تواءم مقتضيات الترابط الدولي ووسيلته في ذلك المنظمات الدولية المتزايدة باطراد، فهناك المنظمات الدولية التي تنضم إليها الدول كأعضاء ويزداد عددها باطراد وهي إما دولية عامة أو إقليمية، وكذا المنظمات الدولية المتخصصة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية التي تتألف من مواطنين أو جماعات رسمية من دول مختلفة يضمها الاتحاد الدولي للجمعيات الدولية. فالتنظيم الدولي إذاً هو في واقع الأمر عملية مستمرة وسبيل موصول وما المنظمات الدولية إلا مظاهر تمثل أوجهاً لمراحل معينة وصلت إليها تلك العملية في وقت معين وكدعامات هامة في الشئون الدولية المعاصرة وتسمهم إسهاما فعالاً في عملية التنظيم الدولي. *ومن ثم فإن التنظيم الدولي أصبح جزءا ضروريا من النظام الذي يعالج المشكلات الدولية [9].
*
(ب) التنظيم الجنائي الدولي
إذا كانت حماية الأبرياء واستهداف سلامة المجتمع الدولي وأمنه هو الغاية المنشودة فقد انبرت الجهود لإيجاد منظومة أو آلية دولية تكفل تحقيق هذا الهدف وخلال هذا السعي الدءوب شهد القانون الدولي الإنساني والجنائي تطورا ملحوظاً سواء في نصوصه أو في فعاليته واستشعر المجتمع الدولي أنه لابد من مؤسسة قضائية تنهض بشئون هذا القانون وتطبقه بعدالة وحيدة وتجرد فبدأ الأمر بإنشاء المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة كمحكمة نورمبرج وطوكيو وتلاها بعد ذلك في حقبة لاحقة المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة ثم محكمة روندا حتى توجت هذه الجهود باعتماد النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية في روما سنة 1998.
ومن هذا الاستعراض تتضح لنا ماهية التنظيم الجنائي الدولي الذي يسود الساحة الدولية في الوقت الراهن فهو يقوم على أساس مبادئ القانون الدولي الجنائي المستقرة في الاتفاقيات الدولية وأهمها اتفاقيات جنيف وفي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كما يقوم على الآلية القضائية الجنائية الدائمة المتمثلة في المحكمة الجنائية الدولية.
ولكن هل هذا هو التنظيم الذي ينشده العالم وننشده وهل هذا ما يكفي لتحقيق العدالة الدولية. *وللإجابة على ذلك نقول بأن تحقيق عدالة جنائية دولية على الصعيد الدولي تستلزم تنظيما مكتمل الأركان، والآليات على نحو ما سبق الإشارة في مقدمة هذا البحث وهو ما سنتناوله بالتفصيل لاحقاً. ولكن مهما يكن من أمر فالتنظيم الجنائي الدولي بحسب ما يجب أن يكون عليه هو الآليات التي تكفل تطبيق العدالة الدولية المجردة والمنزهة عن الأغراض السياسية والمستقل عن موازين القوى والتي تكفل إنقاذ قواعد القانون الدولي الجنائي والإنساني بهدف حماية البشرية من مغبة الحروب غير المشروعة وجرائمها وشتى الجرائم الدولية والتي تستهدف الحيلولة دون انتهاك كرامة الإنسان في أتون النزاعات المسلحة بنوعيها الدولية وغير الدولية والتي تقوى على تقويض سيطرة القوى العظمى على موازين العدالة والإخلال بهما لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الأطراف النامية الضعيفة.
وباختصار يمكن تعريف التنظيم الجنائي الدولي على أنه المؤسسات الدولية التي تنهض بسن التشريعات الدولية الجنائية وتطبيقها وبتنفيذ ما يصدر من أحكام وقرارات قضائية على الصعيد الدولي.
وإذا كنا بصدد الحديث عن العولمة فهي ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والاجتماع والسلوك ويكون الانتماء فيها للعالم كله غبر الحدود السياسية للدول وتحدث فيها تحولات على مختلف الأصعدة الدولية تؤثر في حياة الإنسان أينما كان على كوكب الأرض ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة منها على الصعيد القضائي محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تلك الفعاليات التي تتسم بالدوام وتحقق مفهوم تدويل العدالة لما تحققه من ردع وزجر.
ومن هذا المنطلق فإن تدويل العدالة أو عولمة العدالة هي إيجاد القواعد الموضوعية التي يخاطب بها أفراد المجتمع الدولي قاطبة لتحكم علائقهم وتهذب سلوكهم ولتؤاخذ من ينشق عن مقتضيات القانون الدولي وينتهك حرماته ويهدد أمن وسلامة البشرية وذلك من خلال مؤسسات دولية دائمة تكفل تحقيق هذه العدالة ومعاقبة من يمسها بسوء. ومن خلال هذا التعريف يتضح أن أولى سبل عولمة العدالة الجنائية تتمثل في إيجاد القواعد الموضوعية والإجرائية التي تخاطب كافة أفراد المجتمع الدولي وهو ما أطلقنا عليه تعبير عولمة التشريع الجنائي والذي سيكون مثار بحثنا في البحث القادم.
*
المبحث الثاني
عولمة التشريع الجنائي
لا جرم أن قواعد القانون الدولي متنوعة بقدر تنوع وتشعب العلاقات بين الدول، فالقانون الدولي يتضمن القواعد التي تنظم الحياة الدولية في المجتمع الدولي وتحكم العلاقات الدائرة فيه، بيد أن هذه العلاقات تتطور وتتشعب في الوقت ذاته بتطور المجتمع الدولي الذي تطبق فيه القانون من أجل ذلك قيل أن القانون الدولي قانون متحرك وليس قانوناً ثابتاً جامداً، وهو في هذه الخاصية لا يختلف عن القانون الوضعي [10]. وقواعد القانون تفرض التزام الدول بها والامتناع عن مخالفة أحكامها، لكن الواقع العملي الدولي يشهد على أن الالتزام بقواعد القانون الدولي ليس تاما، ولن يكون كذلك في أي يوم من الأيام لكن الخروج على أحكام القانون يتدرج من حيث درجة خطورته بالنسبة لأمن المجتمع واستقراره.
ولا جرم أن أخطر مظاهر خروج على أحكام القانون الدولي وأشدها من حيث الجسامة وهو الخروج على قواعد القانون الدولي الجنائي لما ينطوي عليه هذا الخروج من خرق لنظام المجتمع الدولي وتهديد أمنه وسلامة أفراده. *ومن هنا تبدو أهمية قواعد القانون الدولي الجنائي بوصفة قانوناً يقرر العقاب على انتهاك النظام العام الدولي في أشد صور هذا الانتهاك من حيث الجسامة ذلك لأن الجرائم في نطاق القانون الدولي لا تقتصر على قتل الإنسان أو المساس بسلامة جسده، بل أنها تتمثل في الحرب وما يرتكب إبانها من فظاعات، كما تتمثل في إبادة أجناس بأكملها أو في غير ذلك من الجرائم التي يطلق عليها وصف الدولية [11].
وبناءا على ذلك فلا مجال للحديث عن أمن للمجتمع الدولي أو سلامته ونمائه بغير قانون دولي يخاطب بأحكام أفراد هذا المجتمع دولا وشعوبا ليترصد بالعقاب كل من تسول له نفسه العبث بأمن وسلام البشرية. ومن ثم يجدر تعريف القانون الدولي الجنائي بأنه القانون الذي يتكفل بتحديد القواعد الموضوعية والإجرائية والعقابية التي تنظم الجوانب الجنائية في العلاقات الدولية، لذا فهو ينقسم بحسب قواعده وأحكامه إلى قواعد موضوعية تقرر الجرائم والعقوبات، وقواعد إجرائية تحدد إجراءات والتحقيق وتشكيل المحاكم المختصة بنظر تلك الجرائم وإجراءات المحاكمة وصدور الحكم والطعن في الأحكام وتنفيذها بعد أن تصبح قابلة للتنفيذ.
ومن خلال هذا المبحث نتعرض لمولد وتطور القانون الدولي الجنائي والخطى الحثيثة التي بذلت على مر العصور لتقنين مدونة عقابية دولية تخاطب أحكامها أفراد الجماعة الدولية وشعوبها ويختص برسم حدود الجرائم الدولية ورصد عقوبات محدده لمن يقترفها ابتغاء تحقيق ردع وزجر على الصعيد يتحقق به الأمن والسلم الدوليين في مطلب أول، ثم نستعرض سمات اكتمال التشريع الدولي في ظل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المطلب الثاني.
*
المطلب الأول
مراحل تطور القانون الدولي الجنائي نحو العولمة
مر القانون الدولي الجنائي بمراحل تطور عديدة منذ أن كان مجرد فكرة تراود أحلام الفلاسفة حتى أضحى في ظل المحكمة الجنائية الدولية واقعاً توج جهود المفكرين طوال تلك المراحل التي ترجع بدايتها إلى القرن الثامن عشر وفيما يلي نشير لتلك المراحل التي مر بها القانون الدولي الجنائي.
مؤتمر فينا سنة 1815
في نهاية القرن الثامن عشر أثار نابليون حروبا عديدة، وبعد انهزامه ظهرت فكرة الحرب غير المشروعة، ووجوب قيام المسئولية من أجلها فقررت الدول المنتصرة في مؤتمر فيينا سنة 1815 مسئولية نابليون عن الحروب غير المشروعة التي شنها وحقيقة أن المنتصرين لم يجدوا مدونة عقابية يصح الاستناد إليها في تقرير مسئولية نابليون إلا أنهم قرروا مسئوليته باسم النظام العالمي ووصفوا نابليون بأنه مثير الحرب غير المشروعة وعدو السلام واتخذوا حياله تدبيراً وقائيا تمثل في نفيه لجزيرة سانت هيلانة [12]. ولقد كان مؤتمر فيينا لسنة 1815 في حقيقة الأمر بداية ازدهار القانون الدولي الجنائي وتمهيدا لما جاء بعده من خطوات.
*
تصريح باريس البحري عام 1856م [13]
كان هذا التصريح الذي تم في 1856 بمثابة أول وثيقة تنطوي على تقنين مكتوب لبعض الجوانب الثانوية للحرب البحرية والذي جرم بعض الأفعال التي كانت تقترف أبان الحروب البحرية ومن أهمها:
- إلغاء القرصنة البحرية.
- إسباغ الحماية على بضائع الأعداء فوق سفن المحايدين بضائع المحايدين فوق سفن الأعداء.
*
اتفاقية جنيف لعام 1864
في أعقاب موقعة سيلفرينو وظهور اللجنة الدولية للصليب الأحمر أصبحت هناك جمعيات تطوعية تسهر على حماية الجرحى والمرضى في ميدان القتال بوازع من الإنسانية والرحمة غير أن الواقع الدولي أظهر ضرورة وجود قواعد قانونية ملزمة للدول لتحملهم على احترام وحماية الجرحى والمرضى في الميدان وتسبغ الحماية على الفرق الطبية التي تقوم بتلك الجهود وفي أعقاب حرب بروسيا والدنمارك التي أظهرت استخفافا شديداً بحقوق الجرحى والمرضى في ميدان القتال انعقد مؤتمرا دوليا في جنيف عام 1846 حيث أقر معاهدة تحسين حالة الجرحى والمرضى في الميدان تلك الاتفاقية التي كانت بمثابة حجر الأساس لجهود الصليب الأحمر حيث تضمنت نصوصا تؤكد على حياد عربات الإسعاف والمستشفيات وضرورة حماية الجرحى والمرضى في الميدان ومساعدتهم.
*
إعلان سان بيترسبورج سنة 1868 [14] Le declaration de saint petresbourg
ذلك الذي دعا إليه ألكسندر الثاني قيصر روسيا عام 1868 وأشار إلى أن الهدف المشروع من الحرب هو إضعاف القوة العسكرية للعدو وليس إفناء الجيوش لذا أوصى بضرورة تجنب الأسلحة التي تضاعف آلام الرجال أو تجعل موتهم أمر محتوما ويعد أول وثيقة مكتوبة تحرم استخدام بعض الأسلحة.
*
مؤتمر لاهاي الأول للسلام عام 1899
بناء على دعوة من قيصر روسيا انعقد هذا المؤتمر في لاهاي سنة 1899 وأسفر عن توقيع عدد من الاتفاقيات الدولية أهمها الاتفاقية الثالثة التي تم بموجبها تطبيق القواعد المنصوص عليها في اتفاقية الصليب الأحمر الخاصة بجرحى ومرضى الحرب في الحرب البرية وكذا في الحرب البحرية ونصت الاتفاقية على ثلاث تصريحات يحرم الأول على الأطراف إلقاء المقذوفات من البالونات لمدة خمس سنوات والثاني يحرم على الدول استعمال المقذوفات التي تؤدي إلى نشر الغازات الخانقة أو الضارة والثالث يحرم عليها استعمال المقذوفات التي تتفرطح داخل الجسم.
*
مؤتمر لاهاي الثاني 1907
انعقد هذا المؤتمر في عام 1907 بمبادرة روسية وفيه تقررت اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية وألحقت بها أيضا لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية وحلت هذه الاتفاقية محل اتفاقية لاهاي 1899.
*
برتوكول جنيف عام 1925م
وبموجب هذا البروتوكول تعهدت مجموعة كبيرة من الدول الأعضاء في عصبة الأمم بعدم الالتجاء في الحروب التي تخوضها إلى استخدام الغازات السامة أو الخانقة أو إلى الحرب البكتريولوجية أو حرب الميكروبات.
*
اتفاقيتا جنيف سنة 1929م
تم عقد اتفاقيتين في جنيف عام 1929 تتعلق الأولى بتحسين أحوال الجرحى المرضى من أفراد الجيوش في الميدان، وتتعلق الثانية بمعاملة أسرى الحرب.
*
اتفاقية جنيف عام سنة 1949
في أعقاب الحرب العالمية الثانية أعدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أربع مشروعات اثنين منهم لتعديل أحكام اتفاقيتي جنيف لسنة 1929 والثالث لتعديل أحكام اتفاقية لاهاي لسنة 1907 الخاصة بنقل الحماية المقررة للجرحى والمرضى من الميدان إلى الجرحى والمرضى في الحرب البحرية وانصب المشروع الرابع على تقرير حماية المدنيين وبعرض هذه المشروعات الأربعة على المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف عام 1949 فقد تم اعتمادها فكانت اتفاقيات جنيف الأربعة [15].
*
البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف
بعد اعتماد اتفاقيات جنيف الأربعة أعدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مشروع بروتوكولين إضافيين لاتفاقيات جنيف بهدف زيادة الحماية المقررة للمدنين ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، والنزاعات المسلحة غير الدولية وتم عرض البروتوكولان على المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف عام 1974 وبعد أربع دورات للمؤتمر تم اعتماد هذين البروتوكولين الإضافيين في 8 يونيو 1977.
*
النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما عام 1998
رغم الجهود المضنية التي بذلت على الساحة الدولية لتشريع قواعد دولية جنائية فقد جاءت تلك القواعد قاصرة عن وضع حداً للعنف والقسوة وانتهاك حرمات البشر حيث لم ترصد أيا من المعاهدات أو الاتفاقيات أنفة البيان أي جزاء جنائي على مخالفة ما ورد بها من أحكام. ولقد ظل الوضع على ما هو عليه خلال الفترة اللاحقة على اعتماد البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف في عام 1977 حتى بزغ فجر جديد يبعث الأمل في تحقيق عدالة جنائية دولية فاعلة وناجزه حيث تم اعتماد النظام الأساسي المحكمة الجنائية الدولية في مدينة روما عام 1998 ولقد كان بمثابة تتويجا للجهود المبذولة في وضع مدونة جنائية دولية إذ أنه أتي بتشريع عقابي دولي متكامل Code Penal international. ولكن ما هي دلالات اكتمال هذا التشريع هذا ما سنحاول توضحيه من خلال المطلب الثاني.
*
*
المطلب الثاني
سمات اكتمال التشريع الدولي الجنائي في ظل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
لعل آية اكتمال التقنين الذي أورده النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أنه اشتمل على ثلاثة طوائف من القواعد تلك الطوائف التي تكفل تحقيق الحماية الجنائية في مواجهة الجرائم الدولية كما هو المسلك التشريعي الذي يسلكه المشرع الوطني داخل أي نظام قانوني محلي وفيما يلي نعرض هذه الطوائف الثلاثة التي تضمنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
*
الطائفة الأولى: القواعد الموضوعية
القواعد الموضوعية هي تلك التي تكفل بتطبيقها الوصول لإصدار حكم جنائي منه للخصومة الجنائية مفاده إما براءة الجاني مما نسب إليه أو بإدانته لما اقترفه من جريمة أو جرائم دولية. وفي سبيل ذلك نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد نص في صدره على الجرائم التي تتصف بالدولية والتي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فأوردت الفقرة الأولى من المادة الخامسة أن (اختصاص المحكمة يقتصر على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بآسرة، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية:
أ) جريمة الإبادة الجماعية
ب) الجرائم ضد الإنسانية
ج) جرائم الحرب
د) جريمة العدوان
*
وحقيقة الأمر أن هذا النص لم يقصد في تصورنا مجرد تحديد الاختصاص الموضوعي للمحكمة وإنما أشار بحسب مقتضاه إلى ما يعد جريمة دولية ويظهر ذلك من خلال إيراده لتلك الجرائم على سبيل الحصر لا المثال ومن ثم فلا يتسنى فتح باب الاجتهاد في إسباغ وصف الدولية على أي جريمة تطرح على بساط البحث. *وإذا كان النظام الأساسي قد أورد الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فهو جاء متفقا والسياسة التي اتبعت حال تحديد اختصاص المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة (محكمة يوغسلافيا السابقة – محكمة رواندا) ولكن مناط التمييز فيما ورد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أنه لم يقف عند حد تعداد الجرائم الدولية بل تجاوز ذلك إلى تضييق نطاق الاختلاف حول ماهية هذه الجرائم وصور السلوك المادي المكون لها، فقد ورد النص بالمواد 6، 7، 8 على المقصود بكل جريمة من الجرائم الثلاثة الأولى التي ورد النص عليها بالمادة الخامسة.
وعلى صعيد إكمال النموذج التجريمي لصور السلوك سالفة الذكر فقد تم النص على ضرورة توافر الركن المعنوي حتى تنعقد مسئولية الجاني في الجرائم الدولية فجاء بالمادة 30 من النظام الأساسي أنه: (ما لم ينص على غير ذلك لا يسأل الشخص جنائيا عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ولا يكون عرضة للعقاب على هذه الجريمة إلا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم).
وهو بذلك قد استلزم توافر عنصري الركن المعنوي وهما العلم بالفعل المؤثم وإرادة إتيانه أو اقترافه وإمعانا في الدقة التجريمية فقد آثر استظهار المقصود بالعلم فنص بالفقرة التالية من ذات المادة على أنه يعني أن يكون الشخص مدركا أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث. ثم نص النظام الأساسي على سائر القواعد الموضوعية التي تكفل إسناد الاتهام لمقترف الجريمة والتي تنظم انعقاد المسئولية انتفائها وأسباب امتناعها وأورد مبدأ هاما في مجال التجريم وهو عدم سقوط الجرائم بالتقادم.
*
الطائفة الثانية: القواعد الإجرائية
إن القانون الدولي الجنائي في تكفله بحماية المصالح الاجتماعية على الصعيد الدولي لم يكن لتكتمل له فاعليته إلا بتنظيم الإجراءات الجنائية التي بمقتضاها يتم توقيع العقاب على الجناة الذين يرتكبون أفعالا تندرج تحت نصوصه. *ومعنى ذلك أن تنظيم الوسيلة التي يمكن بمقتضاها وضع الحماية الجنائية للمصالح الدولية المختلفة موضع التنفيذ هو أمر لازم وضروري لفاعلية القانون الجنائي سواء المحلي أو الدولي [16]. والباحث في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية يلحظ منذ الوهلة الأولى أنه جمع بين المدونة العقابية والمدونة الإجرائية في نصوصه التي جاءت لتخلط كلا القاعدتين وتجعلهما مزيجا واحداً متجانساً وهذا الأمر وإن كان غريبا على الأنظمة التشريعية الجنائية الوطنية في النظام اللاتيني وهو حد علمنا إلا أنه جاء متفقا وطبيعة هذا النظام الذي جاء في سياج إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وليس في سياج تشريعي أو برلماني مستقل عن جهة التقاضي.
*
ومهما يكن من أمر فإن هذا النظام الأساسي نص على مجموعة من القواعد التي تحكم الدعوى الجنائية الدولية من حيث إجراءات مباشرتها منذ لحظة وقوع الجريمة الدولية حتى الحكم فيها وكذلك الحقوق والواجبات الناشئة في محيط الروابط القانونية الناشئة عن تلك الإجراءات بالدعوى الجنائية ذات الطابع الدولي المثارة أمام المحكمة. ومن أهم القواعد الإجرائية التي ورد النص عليها في هذا النظام ما يتعلق بالاختصاص الزمني بما تنظره المحكمة من وقائع فورد النص بالمادة 11 على أنه ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام للأساس وهي بذلك قد حققت وكرست بمقتضى نظامها الأساسي مبدأ الشرعية حيث لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص موجود قبل مقارفة السلوك. ومن تلك القواعد أيضا ما ينظم الإحالة إلى المحكمة واختصاص المدعي العام والمسائل المتعلقة بمقبولية الدعوى كما عنت القواعد الإجرائية بهذا النظام بالنص على القانون واجب التطبيق أمام المحكمة في المادة 21 كما نص على المبادئ الهامة التي تخضع لها المحكمة وقد وردت تلك المبادئ في سياق النصوص من 22 حتى 29. *
*
وقد ورد بالنظام الأساسي تشكيل المحكمة وكيفية اختيار القضاة بها ومؤهلاتهم الجزاءات التأديبية التي يمكن اتخاذها حيالهم وقد تكفلت المواد من 34 حتى 49 بالنص على تلك المسائل وتنظيمها بعناية. وفيما يختص باللغة المعتمدة في عمل المحكمة فقد نظمتها المادة 50 من النظام الأساسي حيث فرقت بين اللغات الرسمية أو لغات العمل بالمحكمة وحددت الأخيرة وحصرتها في اللغة الإنجليزية، والفرنسية فقط ما لم تأذن المحكمة بغير ذلك بناء على طلب أي طرف في الدعوى. ولقد عنت المادة 54 بتحديد واجبات المدعى العام فيما يتعلق بالتحقيقات وأفرد النظام الأساسي نصا خاصا لتنظيم حقوق الأشخاص أثناء التحقيق يكفل ضمانات المتهم أثناء التحقيق والمحاكمة. وفي الباب الثامن من هذا النظام وردت النصوص المنظمة لاستئناف القرارات والأحكام وإجراءات الاستئناف وإعادة النظر في الإدانة أو العقوبة. وبذلك يكون النظام الأساسي للمحكمة وضع نظاما إجرائيا سديدا يكفل تنظيم أوضاع وإجراءات وضمانات التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية بما يكفل تحقيق العدالة الجناية فيما يعرض عليها من أنزعة.
*
الطائفة الثالثة: القاعدة العقابية
إن قانونا جنائي يقتصر على تعداد الأفعال المؤثمة وعلى توصيفها بغير رصد عقوبات لقاء مقارفة تلك المؤثمات لا يحقق فائدة ولا نفعا ولا يفيد في إنجاز العدالة ولا يحمل على هيبته أو احترامه ولعل هذا ما كان يتحدث به فقهاء القانون الدولي قبل اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيث أن اتفاقيات جنيف وما عداها من معاهدات توقفت عند حد تجريم بعض الأفعال المادية دون رصد عقوبات محددة. والعقوبة كنظام قانوني هي الجزاء الذي يقرره القانون ويوقعه القاضي من خلال إجراءات محدده على المسئول عن الجريمة [17].
*
الأسس التي توختها القواعد العقابية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:
*
(أ) الشرعية: وتخضع العقوبة لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ومفاده أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني وهو المبدأ الذي ورد النص عليه بمقتضى المادة 22 من النظام الأساسي والتي نصت على أنه (لا يسأل الشخص جنائيا بموجب هذا النظام الأساسي ما لم يشكل السلوك للمعنى وقت وقوعه جريمة تدخل في اختصاص المحكمة).
*
(ب) شخصية العقوبة: وقد أكد النظام الأساسي للمحكمة على شخصية الجاني وقد تم النص على ذلك في المادة 25 والتي قررت المسئولية الجنائية الفردية فنصت الفقرة الثانية من تلك المادة على أن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسئولا عنها بصفته الفردية وعرضه للعقاب عليها وفقا لهذا النظام الأساسي.
*
(ج) المساواة: والمساواة هي أساس العدالة الجنائية ولهذا ورد النص على مسئولية القادة والرؤساء عما يقارفوه من جرائم دولية فجاءت المادة 28 من النظام لتنص على أن (يكون القائد العسكري أو الشخص القائم فعلا بأعماله مسئولا مسئولية جنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة..الخ).
*
(د) المسئولية الجنائية عن أفعال التابعين: خرج التشريع الجنائي الدولي بهذه السمة عن مبدأ مستقر في التشريعات الجنائية الداخلية والتي سنت لتواجه الجرائم الداخلية غير الدولية وهو مبدأ شخصية العقوبة والذي جاء النص القرآني ليؤكد عليه فقال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [18] بيد أن الجرائم الدولية لها طابع خاص حيث أن مرتكبيها عادة ما يقارفوها تنفيذا لأمر قادتهم ورؤسائهم لهذا من غير العدالة أن يؤاخذ المأمورون ويفلت الآمرون ولقد جاء التأكيد على انعقاد مسئولية القائد أو الرئيس وتابعيهما من الجنود و القوات عما يرتكب من جرائم عما تصادفه إيقاعه في قوله تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [19] وبذلك ألحق القرآن المسئولية عما اقترف من جرائم برئيس الدولة وهو فرعون ووزيره هارون وجنودهما الذين ائتمروا بأمرهما. ولقد جاءت المادة 28 لتؤكد مسئولية القائد العسكري أو القائم بأعماله عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب قوات تخضع لإمرته أو لسلطته أو لسيطرته.
*
(ه) وضوح العقوبة وتناسبها مع الجرم المقترف: إن أهم ما يميز التقنين الدولي الجنائي الذي ورد بالنظام الأساسي هو رصد عقوبات محدده على جرائم محدده وهو ما جعله ينفرد ويتميز عما سبقه من محاولات ولذا فإنه ينظر إليه على أنه كود عقابي دولي متكامل. وفي ذلك نجد أن المادة 77 نصت على أنه يكون للمحكمة أن توقع على الشخص المدان بارتكاب جريمة في إطار المادة 5 من هذا النظام الأساسي إحدى العقوبات التالية الخ. *كما أن هذا النظام أعطى المحكمة سلطة تقديرية في تحديد العقوبة بما يتناسب وجسامة الجريمة وخطورتها وقد نصت المادة 78 على ذلك صراحة. *وبذلك نجد أن الجهود المضنية التي بذلت على مدى عقود طويلة قد أثمرت وأينعت عندما تم اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي أفرز أول تشريع عقابي دولي متكامل العناصر يصح إعماله حتى تتحقق به العدالة الجنائية على الصعيد الدولي.
*
المبحث الثالث
عولمة القضاء الجنائي
تشكل الجريمة الدولية، خصوصا المرتكبة ضد سلم وأمن البشرية، أحد العوامل التي تثير قلق المجتمع الدولي وتهدد رفاهيته، لكونها تمثل اعتداء صارخا على أحد المصالح التي يكفل لها القانون الدولي الجنائي حماية خاصة. من هذا المنطلق كان على المجتمع الدولي أن يسعى لإيجاد الآليات القضائية التي يمكنها الاضطلاع بمهمة معاقبة الأشخاص المتهمين بارتكاب هذا النوع الخطر من الجرائم باعتبار أن هذا الإجراء يشكل عنصرا أساسياً من عناصر شيوع الأمن والطمأنينة في نفوس أفراد المجتمع الدولي بما يضمنه من القصاص من مرتكبي هذه الجرائم، وردع الآخرين ومنعهم من ارتكاب مثل هذه الجرائم التي تهز ضمير الإنسانية مرة أخرى [20].
ولقد مر القضاء الجنائي بعده مراحل حتى بلغ مرحلته الأخيرة باعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي كانت نقطة تحول هامة في سبيل تحقق عولمة القضاء الجنائي وانطلاقا من هذا فقد وجدنا من الملائم وبل من الضروري – أن نتعرض بشيء من الإيجاز لهذه السوابق القضائية للوقوف على ما أسهمت به في التوصل لآلية قضائية جنائية دولية دائمة جديرة بتحقيق عدالة فاعلة على الصعيد الدولي ومن ثم نستعرض فيما يلي مراحل تطور القضاء الدولي الجنائي الذي مر في العصر الحديث بأربعة مراحل على ما سيلي:
* محاكمات الحرب العالمية الأولى
* محاكمات الحرب العالمية الثانية
* المحاكم الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن
* المحكمة الجنائية الدولية
*
المطلب الأول
محاكمات الحرب العالمية الأولى
شهدت الحرب العالمية الأولى أهوال وانتهاكات صارخة لقوانين, وأعراف الحرب التي كانت سارية آنذاك وما أن وضعت تلك الحرب أوزارها حتى عقدت الدول المتحالفة التي خرجت منتصرة من الحرب العزم على محاكمات مجرمي الحرب وعلى رأسهم إمبراطور ألمانيا " غليوم الثاني" وقد تم توقيع تلك الدول على معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919 والتي ورد بالمادة 227 " منها أن سلطات الدول المتحالفة والمنضمة توجه الاتهام العلني إلى الإمبراطور السابق غليوم الثاني لارتكابه انتهاكات صارخة ضد مبادئ الأخلاق الدولية وقدسية المعاهدات، وسوف تشكل محكمة خاصة لمحاكمة المتهم..."
كما نصت المادة " 228 " على اعتراف الحكومة الألمانية بحق الدول المتحالفة والمتعاونة في تقديم الأشخاص المتهمين بارتكاب أفعالا تخالف قوانين، وأعراف الحرب للمثول أمام المحاكم العسكرية.
وفي نفس الوقت انعقدت اتفاقية سيفر عام 1920 بين الحلفاء والأتراك حيث رددت ذات الأحكام التي تضمنت تسليم الأتراك المتهمين بارتكاب جرائم ضد قوانين الإنسانية لمحاكمتهم بواسطة الحلفاء.
بيد أن تلك المحاولات قد باءت بالفشل حيث أن أمريكا واليابان قد اعترضتا على إمكانية إجراء هذه المحاكمة لما تنطوي عليه من إهدار لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ولما تنطوي عليه أيضا من إخلال واضح بمبدأ الحصانة المعترف به لرؤساء الدول والذي كان يحول بشكل مطلق دون مساءلتهم أمام أية هيئة قضائية أجنبية [21].
وقد أجهضت محاولة محاكمة غليوم بعدما طلب اللجوء إلى هولندا والتي استقبلته على أراضيها ورفضت تسليمه للحلفاء.
وأما مجرمي الحرب الألمان فقد آل بهم المآل إلى مثولهم أمام محاكم عسكرية وطنية أبدت معهم التعاطف بل أبدت احترامها لهم على أساس نظرة المجتمع الألماني لهم على أنهم أبطال دافعوا عن قضية الوطن فصدرت أحكاما ببراءتهم جميعا.
*
*
المطلب الثاني
محاكمات الحرب العالمية الثانية
تعالت نداءات دول الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية, بضرورة تعقب ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في حالة انتهاء الحرب لصالحهم, وبالفعل صدرت عدة تصريحات في هذا الخصوص, كان من بينها, تصريح " سان جيمس " في 13 يناير 1942, الذي صدر باسم الدول المتحالفة والحكومات اللاجئة في لندن. وأكدت فيه هذه الدول وتلك الحكومات على ضرورة تقديم المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت أثناء العمليات الحربية للمثول أمام محاكم جنائية, لمعاقبتهم عما ارتكبوه من جرائم احتلال وجرائم ضد الإنسانية, وإتباعهم وسائل القسوة والوحشية ضد المدنيين.تلك الوسائل التي لم تكن تمليها أية ضرورات عسكرية, ولم يكن لها أية علاقة بمفهوم الأفعال الحربية أو الإجرام السياسي حسبما تفهمه الدول المتحضرة. كما أكد المجتمعون على ضرورة محاكمة المسئولين عن هذه الأفعال سواء كانوا منفذين لهذه الأفعال أو مشاركين في القيام بها أو أمروا بارتكابها [22].
وفي أكتوبر 1943 صدر تصريح موسكو الذي أشار إلى الجرائم التي ارتكبها الألمان على أقاليم البلاد المحتلة, والتي تدخل في لإطار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية, وقد فرق هذا التصريح بين طائفتين من المجرمين, أولاهما طائفة المجرمين الذين ارتكبوا جرائمهم على إقليم دولة معينة وتقرر أن تتم محاكمة هؤلاء الأشخاص طبقا لقانون هذه الدولة, حتى ولو تم القبض عليهم في مكان آخر وجب تسليمهم إلى هذه الدولة لتتولى محاكمتهم وثانيتهما, طائفة كبار المجرمين الذين ليس لجرائمهم حدود جغرافية معينة, بل تعدت أفعالهم أكثر من دولة من دول الحلفاء وقد تم محاكمة هؤلاء أمام محكمتين دوليتين:
الأولى: في أوروبا وهي محكمة نورمبرج
الثانية: في طوكيو
وفيما يلي نلقي بصيصا من الضوء على كل منها.
*
*
الفرع الأول
محكمة نورمبرج عام 1945
إنشاء المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرج
أنشأت هذه المحكمة في نورمبرج بموجب اتفاق لندن الموقع في 8 أغسطس 1945. بمحاكمة مجرمي الحرب الذين ليس لجرائمهم موقع جغرافي معين. وقد ألحق بهذا الاتفاق ملحقا يحتوي على النظام الأساسي لتلك المحكمة وقد شكل هذا الملحق جزءا متمما للاتفاق, وأشتمل على القواعد الخاصة باختصاص المحكمة والإجراءات واجبة الإتباع أمامها والقانون واجب التطبيق [23].
*
اختصاص المحكمة
تضمنت المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الاختصاص الشخصي, والاختصاص الموضوعي للمحكمة وفقا لما سيلي:
*
الاختصاص الشخصي
حدد النظام الأساسي للمحكمة أنها منشأة لمحاكمة ومعاقبة كبار مجرمي الحرب من بلاد المحور الأوربية, وتختص في هذا الإطار بمحاكمة ومعاقبة جميع الأشخاص الذين ارتكبوا إحدى الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة [24].
*
الاختصاص الموضوعي
حددت المادة السادسة ثلاث جرائم تخضع لولاية المحكمة, وتستتبع مسئولية مرتكبها شخصيا وهذه الجرائم هي: الجرائم ضد السلام, وجرائم الحرب, والجرائم ضد الإنسانية [25] - في ضوء النظام الأساسي لمحكمة نورمبرج فقد انتهت المحكمة من عملها في أول أكتوبر 1946 حيث تمت محاكمة اثنين وعشرين شخصا وخلصت إلى الحكم ببراءة ثلاثة منهم والحكم على
اثني عشر بالإعدام شنقا وعلى ثلاثة بالسجن مدى الحياة وعلى الأربعة الآخرين بالسجن لمدد تتراوح بين عشرة وعشرين عاما [26]. وبإصدار محكمة نورمبرج لهذه الأحكام, نستطيع أن نقول أن فكرة القضاء الدولي الجنائي قد طبقت بشكل جدي لأول مرة. مما لاشك فيه أن الإرادة المشتركة لدول الحلفاء ورغبتها في إتمام هذه المحاكمة كان السبب الرئيسي الذي أدى إلى نجاح هذه المحاكمات, وترسيخ سابقة هامة في مجال المسئولية الجنائية للأفراد, والعمل – أيضا – على صياغة العديد من المبادئ الأساسية والحاكمة في هذا الخصوص, والتي أصبحت تشكل أسسا هامة تم الاهتداء بها في المحاكمات اللاحقة.
*
*
الفرع الثاني
محكمة طوكيو ( 1946) " I.M.T.F.E"
International military tribunal for the far East
كان لإلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونجازاكي في أغسطس من عام 1945, وما نجم عن ذلك من دمار وخراب لهاتين المدينتين أثره في توقيع اليابان على وثيقة الاستسلام في الثاني من سبتمبر عام 1945. والتي تضمنت إخضاع سلطة إمبراطور اليابان والحكومة لمشيئة القيادة العليا لقوات الحلفاء. والتي كان من سلطتها تقرير ما تراه لازما من إجراءات لوضع شروط الاستسلام موضع التنفيذ [27]. وفي 19 يناير 1946 أصدر الجنرال الأمريكي " دوجلاس ماك آرثر " بوصفه القائد الأعلى لقوات الحلفاء في الشرق الأقصى, قرار بإنشاء المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى ويكون مقرها مدينة طوكيو أو في أي مكان يتم تحديده بعد ذلك, طبقا لنص المادة (14) من النظام الأساسي لهذه المحكمة. من الملاحظ أن إنشاء هذه المحكمة لم يستند إلى اتفاق كالذي أنشئت بموجبة محكمة نورمبرج – ويرجع ذلك إلى العديد من الاعتبارات السياسية المرتبطة بعلاقة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي, وعدم رغبة الولايات المتحدة في أن يكون للاتحاد السوفيتي أي تأثير على إجراءات سير المحكمة [28]. وكانت محكمة طوكيو تختص بنظر الجرائم ضد السلام وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ووجهت المحكمة الاتهام – في 3 مايو 1946 – إلى ثماني وعشرين ممن ارتكبوا هذه الجرائم وأصدرت أحكامها في هذه الاتهامات في 11 نوفمبر 1948, بإدانة 26 متهما, حيث حكم عليهم بعقوبات تقترب من تلك التي أصدرتها محكمة نورمبرج., وان كان تنفيذ هذه العقوبات قد حكمته بعض الاعتبارات السياسية ونزوات الجنرال " ماك آرثر " نفسه, والذي كان يملك سلطة العفو وتقليل مدة العقوبات, وإطلاق سراح بعض من حكم عليهم بالإدانة بالشروط التي يراها.
المبادئ القانونية التي تم التأكيد عليها في ميثاق محكمتي نورمبرج وطوكيو:
تم التأكيد في ميثاق محكمتي نورمبرج وطوكيو وكذلك الأحكام الصادرة عن كل منهما, على العديد من المبادئ القانونية التي صاغتها لجنة القانون الدولي في سبعة مبادئ هى [29]:
(1) أي شخص يرتكب فعلا يشكل جريمة وفقا للقانون الدولي يكون مسئولا عنها ومعرضا للعقاب عليها.
(2) لا يعفي عدم وجود عقوبة في القانون الداخلي من الفعل الذي يعد جريمة وفقا للقانون الدولي, الشخص الذي ارتكب الفعل من المسئولية طبقا للقانون الدولي.
(3) لا يعفي الشخص الذي ارتكب جريمة وفقا للقانون الدولي كونه قد تصرف بوصفه رئيسا للدولة أو مسئولا حكوميا, من المسئولية بالتطبيق للقانون الدولي.
(4) لا يعفي الشخص الذي ارتكب الفعل بناء على أمر حكومته أو رئيسة الأعلى من المسئولية وفقا للقانون الدولي, بشرط وجود خيار معنوي كان متاحا له.
(5) لكل شخص متهم بجريمة وفقا للقانون الدولي الحق في محاكمة عادلة.
(6) يعد من الجرائم المعاقب عليها وفقا للقانون الدولي الجرائم التالية:
الجرائم ضد السلام – جرائم الحرب – الجرائم ضد الإنسانية
(7) يعتبر جريمة وفقا للقانون الدولي الاشتراك في جريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية.
*
الفرع الثالث
مدى تحقق عولمة القضاء الجنائي في ظل محاكمات نورمبرج وطوكيو
نقصد بعولمة القضاء الجنائي أن يكون هناك آلية قضائية جنائية دائمة تختص بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن جنسية الجاني أو صفته أو حصانته ودونما اعتبار لمسألة السيادة الدولية التي قد تقف حائلا أمام مثول مواطن من مواطني دولة ما أمام القضاء الدولي وذلك على أن تكون لتلك الآلية صفة الدوام.
وإذا كان هذا هو مدلول تحقق عولمة القضاء الجنائي فإن الباحث فيما أسفرت عنه محاكمات نورمبرج طوكيو يجد أنها وان كانت خطوة هامة على طريق إنشاء القضاء الجنائي الدولي إلا أنها لم يتحقق بها مفهوم العولمة وآية ذلك نوجزه فيما يلي:
أولا: اتسام محكمتي نورمبرج وطوكيو بالتأقيت
إن هاتين المحكمتان تم إنشائهما لغرض محدد فقد أدت كل منهما الدور الذي كان موكلا إليها وما أن انتهت منه حتى انقضت المحكمة وانفض تشكيلها إلى الأبد ومن ثم فإن كلاهما أنشأ ليس على سبيل الدوام وإنما لإنجاز عمل محدد هو محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية ولعل ذلك أول ما يخل بمفهوم العولمة التي تقوم على وجود آليات دائمة تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع الدولي ليتحقق بذلك استقرار العلاقات على الصعيد الدولي.
*
ثانيا: اقتصار اختصاصها على أفراد بذاتهم " الاختصاص الشخصي"
لم يكن القصد من إنشاء محكمتي نورمبرج وطوكيو سوى محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية التابعين للمحور المهزوم فإذا كان عرض عليها آنذاك أي متهم بارتكاب جريمة من الجرائم الدولية التي تخرج عن هذا النطاق الشخصي لكان خارجا عن اختصاصها ولقضت بعدم مقبولية الدعوى بشأنها.
*
ثالثا: اختصاصها بما تم من جرائم خلال فترة محددة فقط " الاختصاص الزمني "
انحصر اختصاصها في نظر الجرائم التي تم ارتكابها خلال مدة زمنية محددة هي المدة التي دارت أثناءها الحرب العالمية الثانية فهي محاكمة أنشأت بمناسبة محددة لمحاكمة أفراد معنيين عما اقترفوه من جرائم أثناء فترة محددة وذلك ما يفقدها صفة العولمة أو التدويل.
*
المطلب الثالث
المحاكم الخاصة النشأة بقرار من مجلس الأمن
أنشأ مجلس الأمن بمناسبة جرائم معينة ارتكبت في فترة وأماكن محددة محاكم لمقاضاة مرتكبي تلك الجرائم وتمثلت في المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة, المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ونظرا لما تمثله هاتين المحكمتين من أهمية في إطار ترسيخ فكرة المسئولية الجنائية الدولية للأفراد وأيضا فيما يتعلق بأساس إنشائهما واختصاصهما، وجدنا من الضروري أن نتعرض لهما بإيجاز كل في مطلب مستقل.
الفرع الأول
المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة
(The international criminal tribunal for the former Yugoslavia)
(أ) إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة [30]:
استنادا للسلطات المخولة لمجلس الأمن طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حالات تهديد السلم والأمن الدولي أو الإخلال بهما أو وقوع عمل من أعمال العدوان. قام مجلس الأمن بإصدار قراره رقم (827) لعام 1993, القاضي بإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأشخاص المسئولين عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني في يوغوسلافيا السابقة, باعتبار أن اتخاذ مثل هذا الإجراء يعد أحد التدابير غير العسكرية التي يمكن من خلالها تأكيد حفظ السلم والأمن الدوليين وإعادتهما إلى نصابهما.
*
(ب) اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة:
(1) الاختصاص الموضوعي: طبقا للنظام الأساسي للمحكمة فإنها تختص بالنظر في الاتهامات الموجهة للأشخاص الطبيعيين بارتكاب جرائم حرب, والمتمثلة في الانتهاكات الجسيمة لاتفاقات جنيف لعام 1949.
(2) الاختصاص الشخصي: ويتعلق بالأفراد الذين ارتكبوا تلك الانتهاكات [31].
(3) الاختصاص المكاني: ويشمل الجرائم التي ارتكبت في إقليم يوغوسلافيا السابقة سواء منه الإقليم البري أو البحري أو الجوي [32].
(4) الاختصاص الزماني: تختص المحكمة بالجرائم التي ارتكبتها منذ أول يناير سنه 1991.
*
الفرع الثاني
المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ICTR
(أ) إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا
في أعقاب المذابح التي ارتكبت في رواندا عام 1994 قام المجلس بإصدار قراره رقم (955) والذي تضمن ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية في إقليم رواندا.
*
(ب) اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية لرواندا [33]
(1) الاختصاص الموضوعي: محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وعلى خلاف محكمة يوغوسلافيا فانه لم يدخل في اختصاصها محاكمة المتهمين بارتكاب انتهاكات لاتفاقات جنيف 1949 وإنما محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقات جنيف 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني, بوصف أن الصراع الذي كان دائرا في رواندا كان صراعا أهليا وليس دوليا.
(2) الاختصاص الشخصي: بحسب النظام الأساسي للمحكمة فلقد اقتصر على الأشخاص الطبيعيين الذي ارتكبوا أو اشتركوا بأي وسيلة في تنفيذ إحدى الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة.
(3) الاختصاص الزمني: وهو محدد بالجرائم التي ارتكبت في الفترة من أول يناير حتى آخر ديسمبر 1994
(4) الاختصاص المكاني: ينحصر في اختصاص المحكمة بالجرائم التي ارتكبت على الإقليم الرواندي أو على أقاليم الدول المجاورة والتي حددها مجلس الأمن بمعسكرات اللاجئين في زائير وبعض الدول المتاخمة لها التي كانت مسرحا لتلك الجرائم والتي كانت ترتبط بالنزاع الدائر على إقليم رواندا.
*
*
الفرع الثالث
هل تعتبر محكمتا لمجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة ورواندا من آليات العولمة القضائية الجنائية؟
ولقد سبق أن أثرنا هذا التساؤل عقب الانتهاء من عرض محاكم مجرمي الحرب العالمية الثانية (نورمبرج وطوكيو ) وفي هذا نشير إلى أن محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا شأنهما شأن محكمتي نورمبرج وطوكيو لا يمكن اعتبارهما آلية من آليات عولمة القضاء الجنائي وذلك لذات الأسباب التي سبق أن استعرضناها تعليقا على محاكمات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فإن طبيعة محكمتي يوغوسلافيا, رواندا المؤقتة وكونهما قد أنشئتا لمحاكمة مجرمين بأعينهم عن جرائم بعينها وقعت خلال زمن معين وفي نطاق مكاني معين لا يجعلهما آلية قضائية حاكمة لكافة الأنزعة الجنائية على الساحة الدولية بل أننا نرى في تصورنا أنهما وإن كانتا قد نشئتا بقرار من مجلس الأمن إلا أنهما يخلان بمبدأ القاضي الطبيعي الذي هو أهم مفردات العدالة سواء على الأصعدة الوطنية أو على الصعيد الدولي فإن مثول متهم لقاضي عين خصيصا لمحاكمة هذا المتهم يخل بمقتضيات العدالة ولا ريب.
ولهذا دأب الفكر الدولي على ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية يمثل أمامها المتهمين بارتكاب الجرائم الدولية يتجرد ويلجأ لها المجني عليهم بوصفها القاضي الدولي الطبيعي وهذا ما حققته المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظامها الأساسي والتي نتعرض إليها من خلال المبحث التالي.
*
المبحث الرابع
المحكمة الجنائية الدولية كآلية دائمة للعولمة القضائية الجنائية
من العرض السابق لمراحل تطور القانون الدولي الجنائي الذي بدأ من العدم حتى أضحى واقعاً ملموسا في ضوء المدونة العقابية التي جاءت في ظل النظام الأساسي للمحكمة الدولية، ومن خلال استعراض محاولات المجتمع الدولي لإيجاد محكمة دولية تختص بنظر الجرائم الدولية لتأخذ على يد مقترفيها فقد ثبت أن وجود آلية دائمة قوية ومستقلة تسهر على تحقيق العدالة الجنائية الدولية لمن أهم مقومات الحفاظ على الأمن الدولي وإعادة السلام إلى كافة أنحاء المعمورة وفضلا عن أن إنشاء تلك الآلية يعكس تطور الشعور بالمسئولية والعدالة كقيم معترف بها على المستوى الدولي، غير أن تحقيق العدالة الجنائية الدولية على أساس محاكم جنائية دولية خاصة غير مرضية بالقدر الكافي، فعلى الرغم من إنشاء محكمتي يوغسلافيا ورواندا الدوليتين إلا أن الإرادة الدولية عجزت عن إنشاء محاكم أخرى للعديد من النزاعات التي وقعت في العديد من الدول ومن ثم وتفاديا لمثل تلك الثغرات والعقبات الإدارية والسياسية واللوجيستيكية فلم يكن أمام المجتمع الدولي سوى خيار إنشاء محكمة دائمة تختص بنظر الجرائم الدولية البشعة وتعاقب مرتكبيها [34].
وإزاء تحقق هذا الحلم الذي رواد البشرية قرونا طوال كان لنا أن نتناول المحكمة الجنائية الدولية بما يجعلنا نقف على إجابة تساؤل هام مفاده هل تلك المحكمة كآلية قضائية دولية حققت ما كان يصبوا إليه المجتمع الدولي من نشر العدالة الجنائية المجردة على ربوع المعمورة أم أنها ما زالت في حاجة إلى مزيد من الخطى والسعي نحو هذا الهدف ولأجل الإجابة على هذا التساؤل كان لابد أن نتعرض للنقاط التالية:
*
1- النظام الأساسي للمحكمة هو معاهدة دولية [35]
من المعلوم وفقا لاتفاقيتي فينا لقانون المعاهدات الدولية لعامي 1969، 1986 أن الاتفاق يعتبر معاهدة دولية أيا كانت تسميته، وذلك لأن التسمية لا تلعب دورا هاما في هذا الخصوص فقد يسمى اتفاقا أو معاهدة أو بروتوكولا أو إعلانا أو نظاما أساسياً.
ويترتب على هذه الطبيعة التعاهدية لنظام الأساسي للمحكمة عدة أمور أهمها:
- أن الدول ليست ملزمة بالارتباط به رغما عنها.
- أن النظام الأساسي للمحكمة تسري عليه تقريبا كل القواعد التي تطبق على المعاهدات الدولية مثل تلك الخاصة بالتفسير، والتطبيق المكاني والزماني والآثار.
ومن ثم فصفوة القول أنه ما لم ترتضي إحدى الدول غير الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة فلا يمكن أن تسري عليها أحكامه فهو لا يسري إلا على أطرافه، ولقد ورد النص على ذلك صراحة في أحكام النظام الأساسي للمحكمة حيث أظهر علاقة الدول غير الأطراف بهذا النظام ومدى إمكانية خضوع أيهم لإحكامه.
*
2- حدود سلطة المحكمة الجنائية الدولية على الدول غير الأطراف في نظامها الأساسي
حتى يكون هناك عدالة فعلية نافذة فلابد ألا يستثني أحداً من إمكانية الخضوع لسلطة القضاء حالة الادعاء عليه و إلا لكنا بصدد عادلة ناقصة غير منتجة فما مدى تحقق ذلك بالنسبة للمحكمة الدولية ؟
من المعلوم أن أية معاهدة دولية تنتج آثارها فقط بين أطرافها، ومن ثم فالمبدأ الحاكم للمعاهدات الدولية هو مبدأ الأثر النسبي للمعاهدة Principe de relativites بيد أن هذا المبدأ قد لا يكون له أثر إذا وافقت الدولة التي ليست من أطراف تلك المعاهدة على سريان أحكام المعاهدة عليها، أي أن رضاء الدولة المعنية مناط خضوعها لأحكام المعاهدة. هذا وقد سبق الإشارة إلى أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ما هو إلا معاهدة دولية وبذلك فيحكمه مبدأ نسبية الأثر ولقد عنيت نصوص النظام الأساسي للمحكمة برسم حدود سلطة المحكمة وحالات خضوع الدول غير الأطراف لسلطانها وأهمها ما يلي:
أ) أن المحكمة يمكن أن تمارس سلطانها فوق أراضي كل دولة طرف، وكذلك وفقا لاتفاق يبرم لهذا الغرض فوق أراضي أية دولة أخرى (م 4/2).
ومن ذلك يبين أن مناط مباشرة المحكمة لاختصاصاتها فوق دولة من غير الأطراف منوط برضاء تلك الأخيرة.
ب) أن المحكمة لا اختصاص لها إلا بالنسبة للجرائم التي ترتكب بعد دخول نظامها الأساسي حيز النفاذ، وإذا أصبحت دولة ما طرفاً في النظام الأساسي بعد دخوله حيز النفاذ فلا يمكن للمحكمة ممارسة اختصاصها إلا بالنسبة للجرائم المرتكبة بعد دخول النظام الأساسي حيز النفاذ بالنسبة لهذه الدولة وما لم تعلن هذه الدولة الأخيرة موافقتها على ممارسة المحكمة لاختصاصها على تلك الجرائم (م11) وذلك يؤكد استحالة سريان الأحكام العقابية الواردة بالنظام الأساسي للمحكمة على مواطن من دولة غير طرف إلا بموافقة تلك الدولة إلا في حالة واحدة وهي الإحالة من مجلس الأمن وهو استثناء سنتعرض له لاحقاً.
ج) بالنسبة لممارسة المحكمة لاختصاصها بناء على طلب من دولة أخرى أو بناء على تحقيق يفتحه المدعى العام استنادا إلى معلومات وصلت إليه بارتكاب جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، يمكن للمحكمة ممارسة اختصاصها إذا كانت واحدة أو أكثر من الدول التالية طرفا في هذا النظام الأساسي أو قبلت باختصاص المحكمة:
1- الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة.
2- الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها.
*
وهذه النصوص تشير بصريح لفظها أنه لا سبيل لخضوع الدول غير الأطراف لسلطان المحكمة واختصاصاتها إلا برضاء صريح أو ضمني من تلك الدول. ولكن هل هناك سبيل آخر لأن تنظر المحكمة حالة أو دعوى خارج هذا النطاق ؟ *في واقع الأمر لم تغفل نصوص النظام الأساسي للمحكمة تنظيم سبل رفع الدعوى الجنائية أمام المحكمة وجاء ذلك على سبيل الحصر في ثلاث حالات نشير إليها فيما يلي حتى يمكن الإجابة على هذا التساؤل.
*
3- كيفية إحالة الدعوى للمحكمة الجنائية الدولية
لا يكفي حدوث حالة حقيقية تتضمن الارتكاب المحتمل لجريمة أو أكثر من تلك الجرائم المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة حتى يتسنى لها مباشرة سلطاتها القضائية ولكن النظام الأساسي للمحكمة نص على السبل الإجرائية التي تعطي المحكمة فرصة مباشرة اختصاصاتها وهي ثلاث سبل وردت على سبيل الحصر وهي:
*
السبيل الأول: من دولة طرف إلى المدعى العام:
أول السبل التي تبسط هيمنة المحكمة على حالة تتضمن احتمال وقوع جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاصها هي أن تحيل أحد الدول الأطراف الواقعة الجنائية المدعى بها إلى المدعى عليها حيث يتولى مباشرة التحقيقات اللازمة لاستجلاء أركان الجريمة أو الجرائم المدعى بها فإذا ما توصل إلى رجحان الأدلة المؤيدة للاتهام استوجب عليه عرض الدعوى على دائرة ما قبل المحاكمة لعرض ما تحصل عليه ضد المتهم من أدلة تؤيد اتهامه بارتكاب الجريمة حيث تتولى الدائرة تقييم الأدلة فإذا ما رأتها دامغة بما يكفي لتأييد الاتهام ضده اعتمدت التهم التي قررت بشأنها وجود أدلة كافية وأحالت المتهم إلى الدائرة الابتدائية بالمحكمة لمحاكمته على التهم التي اعتمدتها وقد وردت تلك الإجراءات في المادة 13/1، 14، 61 من النظام الأساسي للمحكمة.
*
مدى جواز الإحالة من دولة غير طرف؟ لم يرد نصا بالنظام الأساسي للمحكمة يجيز لدولة غير طرف أن تحيل حالةً ما إلى المدعى العام بيد أنه في ذات الوقت لم يرد ما يقيد ذلك.
وإذا كان الأصل الذي سبق الإشارة إليه أن يجوز لأي دولة غير طرف أن تقبل اختصاص المحكمة أو التعاون معها أو تقبل أن تباشر المحكمة إجراء معينا فوق أراضيها وكان هذا الرضاء يقيد مبدأ الأثر النسبي فإن ذلك يجعلنا ننتهي إلى أنه لا مانع إجرائيا أو تشريعيا يقيد حق دولة غير طرف في إحالة حالة ما إلى المدعى العام لبسط سلطته عليها ولعل هذا أدى إلى إقرار مبدأ دوليا إجرائيا هاماً وهو: (ضمانة الادعاء الدولي أمام المحكمة الجنائية الدولية) حيث أضحى حقاً دوليا مكفولاً لكافة الدول غاية ما في الأمر أنه إذا ما أحالت دولة غير طرف حالة ما للمدعى العام فإن ذلك سيستلزم منها أن تقبل بتعاونها مع المدعى العام والمحكمة أثناء فترة التحقيق، والمحاكمة، والتنفيذ- وعلى هذا نصت المادة 12/3 (إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام لازماً بموجب الفقرة 2 جاز لتلك الدولة بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث وتتعاون الدولة الثانية مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقا للباب التاسع).
*
وجدير بالذكر أن مناط اختصاص المحكمة في هذه الحالة سيكون مقيدا بالقيد الذي نصت عليه المادة 12 في فقرتها الثانية والتي ورد به أنه في حالة إحالة دولة طرف حالة إلى المدعي العام أو كان للمدعي العام قد بدأ مباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم " فإنه يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إذا كانت واحدة أو أكثر من الدول القابلة طرفا في هذا النظام الأساسي أو قبلت باختصاص المحكمة أياً من الدول التالية:-
(أ) الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة.
(ب) الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها ومن ثم فأياً ما كانت الدولة التي أحالت الحالة للمدعي العام سواء كانت طرفا في النظام الأساسي أو غير طرف فإن انعقاد اختصاص المحكمة منوطا بهاتين الحالتين سالفتي الذكر.
*
السبيل الثاني: الإحالة عن طريق مجلس الأمن
ولكن ماذا لو أن الجريمة ارتكبت على إقليم دولة من غير الأطراف أو سفينة أو طائرة مسجلة بدولة غير طرف أو كان المتهم من رعايا دولة غير طرف في النظام الأساسي هل تنعدم فرص الإحالة للمدعي العام وتنتفي سلطة المحكمة حيال الحالة أو الجريمة محل البحث ؟
حقيقة الأمر أن النظام الأساسي للمحكمة توخي هذه الفرضية حيث أعطى مجلس الأمن سلطة الإحالة للمدعي العام وهو ما نصت عليه المادة (13) فقره (ب) بقولها (للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة (5) وفقا لأحكام هذا النظام في الأحوال التالية:-
(ب) إذا أحال مجلس الأمن, متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة, حالة إلى المدعى العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
وفي الوقت الذي أعطى فيه مجلس الأمن هذه المكنة فقد فتح النظام الأساسي المجال أمام هذا الادعاء حيث بسط اختصاص المحكمة على هذه الحالة المطروحة أو المحالة من مجلس الأمن فلم يضع القيدين الذين وضعهما أمام الإحالة من دولة طرف أو عن طريق مباشرة المدعي العام التحقيق ففيما قيد سلطة المحكمة في الحالة الأخيرة يقيد ضرورة أن تكون الدولة محل ارتكاب الجريمة طرفا في النظام الأساسي أو أن يكون المتهم من أحد رعاياها فقد أفسح المجال أمام الإحالة الصادرة عن مجلس الأمن فلم يقيد اختصاص المحكمة حيالها بأي قيد[36].
ومفاد هذا أنه ما إن أحال مجلس الأمن واقعة معينه للمدعي العام فلا مجال للتذرع بأن المتهم من رعايا دولة غير طرف أو أن الجريمة ارتكبت على إقليم دولة من غير الأطراف.
ومن ثم فإن ذلك يحملنا على القول بأن سلطة المحكمة على الدول غير الأطراف أصبحت سلطة حقيقة كاملة إذا ما أعمل مجلس الأمن اعتبارات العدالة المجردة ونحَّى جانبا معايير القوى وموازينها السياسية.
وبذلك يكون النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد أتى بمفهوم جديد للادعاء أطلق عليه الأستاذ الدكتور حازم عتلم (الادعاء السياسي) وهو وإن كان من وجهة نظر سطحية ولأول وهلة يوحي بأنه قد بسط سلطان القضاء الجنائي الدولي على الدول غير الأطراف إذا ما عَنَّ لمجلس الأمن إحالة حالة تتبع دولة غير طرف بسبب ارتكاب الجريمة على إقليمها أو لكون الجاني من رعاياها إلا أن إعطاء مجلس الأمن هذه المكنة من وجهة نظرنا قد يؤدي إلى الإخلال بالعدالة حيث أنه لن يستطيع أن يعمل هذه السلطة بحيدة وتجرد عن الصوالح السياسية التي تناضل من أجلها الدول دائمة العضوية.
*
وفي هذا لنا أن نتساءل هل يقوى أو يجرؤ مجلس الأمن على إحالة أحد مسئولي أو قادة دولة من الدول دائمي العضوية به للمدعي العام بشأن جريمة أقترفها ؟ هل استطاع مجلس الأمن أن يحيل القادة الأمريكيين الذين اتهموا بتعذيب العراقيين في سجن أبو غريب أو في معتقل جوانتنامو؟ وهل يجرؤ على إحالة أيا من القادة الإسرائيليين المتهمين بارتكاب أبشع الجرائم الدولية على الأراضي الفلسطينية ؟
ولما كانت الإجابة بالنفي تفرض نفسها على السائل فإن ذلك يجعلنا ننتهي إلى أن (حق الادعاء السياسي) لم يكن إلا تقويضا للعدالة الجنائية ونيلاً منها.
ولكن ما يقلل من غلواء هذا الوضع أنه عند إحالة قضية عن طريق مجلس الأمن أو الدولة الطرف أو الدولة غير الطرف تكون تلك الإحالة في نفس المستوى ولا يفهم من ذلك أن الإحالة من قبل مجلس الأمن تمثل التزام على المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية لمباشرة إجراءات المحاكمة, وإنما ينهض المدعي العام بما ألزمته به النصوص التي أشرنا إلى بعضها سابقا فإذا ما رأى كفاية الأدلة المطروحة وعرض الأمر على دائرة ما قبل المحاكمة التي تقوم بوزن الأدلة المطروحة توطئه لتقديم الدعوى للدائرة الابتدائية إذا ما كان لذلك مبررات من الأدلة أو لرفضها والانتهاء لعدم مقبوليتها بحكم الاختصاصات المخولة لها بموجب المادة 264 من النظام الأساسي [37].
السبيل الثالث: تحريك التحقيق من قبل المدعي العام للمحكمة من تلقاء نفسه
وفقا للمادة (15) قد يقوم المدعي العام من تلقاء نفسه بمباشرة التحقيق دون الإحالة من قبل إحدى الدول الأطراف (مادة 13 (أ), 14) أو مجلس الأمن (مادة 13 (ب)) أو دولة غير طرف (مادة 12 (3)) ومع ذلك فإنه قبل البدء في إجراءات التحقيق يقوم المدعي العام بتقديم طلب مدعم بالمستندات المادية للدائرة التمهيدية (مادة 15 (2)) والحصول على موافقتها (مادة 15 (4)) بأغلبية الأصوات التي لا تقل عن (2 من واقع 3 أصوات).
وعند جمع المستندات المدعمة للاتهام يقوم المدعي العام بجمع المعلومات عن طريق مصادر موثوقة مثل الدول, الأجهزة التابعة للأمم المتحدة أو الجهات الحكومية والمنتظمات غير الحكومية ويقوم المدعي العام أيضا بتلقي شهادات شفهية أو تحريرية بمقر المحكمة أو في أية جهة أخرى (مادة (15/1)) توطئة لإحالة الأوراق لدائرة المحاكمة المسبقة, ويجوز أيضا للمجني عليهم المرافعة أمام تلك الدائرة الخاصة والتي تسبق المحاكمة.
لا يقوم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمباشرة التحقيق إلا بعد قيام دائرة الشئون الخاصة بما قبل المحاكمة بإقرار وجود أساس معقول للشروع في التحقيق وأن الحالة تقع في دائرة اختصاص المحكمة (مادة 15 (4)) وإذا لم تأذن دائرة الشئون الخاصة بما قبل المحاكمة بإجراء التحقيق جاز للمدعي العام تقديم طلبات أخرى عند ظهور وقائع أو دليل جديد (مادة (15/5)).
وبهذا ومن خلال استعراض سبل إحالة حالة إلى المدعي العام يكون قد اهتدينا لإجابة التساؤل الذي بدأنا به هذا الموضوع وهو هل يمكن للمحكمة أن تباشر اختصاصاتها حيال دولة من غير الأطراف ووجدنا الإجابة تكمن في جواز ذلك برضاء تلك الدولة أو بأن تكون الإحالة للمدعي العام صادرة من مجلس الأمن وهو ما تجسد هذه الأيام بإحالة ملف دار فور الذي أحالة مجلس الأمن للمحكمة الجنائية الدولية رغم أن السودان ليست طرفا في النظام الأساسي للمحكمة.
*
4- مدى تحقق ضمانة الاستقلال للقضاء الجنائي الدولي
لا جرم أن استقلال القضاء هو الضمانة الأساسية التي تكفل تحقيق العدالة المنشودة تلك العدالة التي تدور وجودا وعدما مع استقلال القضاء.
واستقلال القضاء المنتج للعدالة المنشودة هو وبحق التحرر من أية قيود أو نفوذ أو إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة.
وللأسف إذا ما طالعنا نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية بحثا عن ضمانات الاستقلال نجد أنها تضمنت نصاً معيبا اعتور هذا النظام ونال من استقلال القضاء الجنائي الدولي بل أنه قد أحدث خرقا متسعاً في ثوب العدالة الدولية المنشودة حيث اندس نص المادة (16) ليعطى لمجلس الأمن مكنة التدخل في مجريات العدالة ذلك النص الذي ورد به أنه (لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام الأساسي لمدة أثنى عشر شهرا بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها).
والعجب في الأمر أن هذا النص لم يحدد الأسباب الموضوعية التي يجوز لمجلس الأمن الاتكاء عليها وصولا لوقف التحقيقات أو المحاكمات بل أن الأدهى من ذلك أن النص أعطى مكنة للمجلس لتقديم طلب إرجاء أو وقف التحقيق أو المحاكمة في أية حالة أو مرحلة كانت عليها الدعوى وآخر ما يهدد معايير الاستقلال أنه أعطاه مكنة إرجاء أو وقف التحقيقات أو المحاكمات لمدة أثنى عشر شهرا قابلة للتجديد دون أن يضرب النص بتحديد زمني يقيد مدة هذا الإرجاء [38].
ومن ثم أضحى لمجلس الأمن مكنة واسعة في توجيه دفة العدالة وسلطة لا بأس بها في تسليط سيف العقاب إلى رقبة هذا ورفعة عن رقبة ذاك استنادا لما يسيطر عليه من موائمات سياسية وملائمات تستهدف مصالح الدول الدائمة العضوية بغض النظر عن المصلحة العامة.
ونرى بذلك أن هذا النص المعيب لم ينل من استقلال القضاء الجنائي الدولي فحسب بل أنه وصم النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية برمته حيث هدم أسس الادعاء والتصرف في الدعاوى وفي مجريات المحاكمات الذي كان يجب ألا يتصرف فيه سوى المدعى العام ودائرة المحاكمة الأولية، أو الدائرة الابتدائية.
وبهذا لا يمكن القول بأن القضاء الجنائي الدولي هو صاحب التصرف وحده في مجريات التحقيق والمحاكمة بل أن يد المصالح السياسية الدولية بموجب هذا النص أصبح لها حقاً في أن تمتد لتسييس وتسير أمور العدالة حسبما تقتضي تلك المصالح التي تخص دولا على حساب دولاً أخرى.
ومن ثم إذا كنا بصدد سؤالا محدداً مفاده هل تحقق للمحكمة الجنائية الدولية بموجب نظامها الأساسي الاستقلال الضامن لبلوغ العدالة الجنائية الدولية المنشودة كانت الإجابة مستندة إلى نص المادة (16) من هذا النظام هي بالنفي للأسف الأمر الذي يجعلنا نخلص إلى ضرورة إلغاء هذا النص لتكون مجريات التحقيق والمحاكمة حكرا على المدعى العام ودائرة المحاكمة المسبقة والمحكمة الجنائية الدولية بدائرتيها.
*
5- مدى تحقق العولمة القضائية في ظل المحكمة الجنائية الدولية
أسلفنا القول بأن حق الادعاء الجنائي الدولي أصبح مبدأ عالميا في ظل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فمكنه الإحالة للمدعي العام مكفولة للدول الأطراف وغير الأطراف في النظام الأساسي – كما وأنها مكفولة أيضا للمدعي العام بممارسته التحقيق في أي حالة تتوافر فيها الأدلة المرجحة لتحقق الجريمة وإذا كان ذلك مقيداً بضرورة أن تكون الدولة محل ارتكاب الجريمة أو التي ينتمي إليها الجاني طرفا في النظام الأساسي لمحكمة فإنه بإعطاء مجلس الأمن حق الإحالة للمدعي العام دون تقيد بهذين القيدين فإنه يجدر بنا القول أننا نشهد عولمة حقيقية للقضاء الجنائي بفضل الآلية القضائية الدائمة التي ظهرت على الساحة الدولية والتي نظم عملها واختصاصاتها وإجراءات التداعي أمامها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ولكن هل يعني ذلك أننا بالضرورة نشهد عولمة للعدالة الجنائية أي عدالة دولية مجردة عن الصوالح السياسية وموازين القوي؟ وتكمن الإجابة في أن ذلك يعد صحيحاً إذا ما كان مجلس الأمن سيباشر مهمة الإحالة للمدعي العام بتجرد عن المصالح السياسية للدول دائمة العضوية وهذا ما نعده مستحيلا لأن دائما ما تعارضت وستتعارض مصالح تلك الدول مع مقتضيات العدالة المجردة.
لعل السبيل في تصورنا للوصول لهذه العدالة الدولية الجنائية المجردة لن يكون إلا بِغِل مجلس الأمن عن التدخل في مجريات التحقيق أو المحاكمة بحيث لا يكون ولا ينبغي له أن يكون له حق إرجاء التحقيق أو المحاكمة أو الحيلولة دون بدءه على ما أسلفنا القول.
وبأن يلعب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية دور النائب عن المجتمع الدولي فيكون له حق مباشرة التحقيق من تلقاء نفسه في آية حالة أو واقعة جنائية دولية حتى ولو ارتبطت أحداثها بدولة من غير الأطراف أو وقعت على إقليم دوله غير طرف أو كان المتهم فيها لا ينتمي لدولة من الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وإذا كان هذا التصور (قيام المدعي العام بدور النائب عن المجتمع الدولي) يتعارض مع مبدأ الأثر النسبي للمعاهدات والذي سبق أن أشرنا إليه إلا إنه كان من الممكن تلافي ذلك بعدم اللجوء إلى أسلوب المعاهدات أو الاتفاقات لإنشاء القضاء الجنائي الدولي وإنما إلى أسلوب التوصية "resolution" من الجمعية العمومية للأمم المتحدة حتى تضمن موافقة جميع دول العالم الموقعين على الاتفاقية على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وخضوعهم جميعا بالتالي لاختصاصاتها وللأحكام الموضوعية والإجرائية المنشأة لها [39] وفي هذه الحالة كان سيتحقق الاختصاص للمدعى العام بتحريك التحقيق وبدءه إذا ما توافرت الأدلة على وقع جريمة دولية أيا ما كان مرتكبها أو محل ارتكابها أو جنسية مرتكبها.
فإذا ما تصورنا حدوث ذلك لكنا بصدد عولمة القضاء الجنائي وعولمة للقانون الدولي الجنائي حيث كان سيصبح أفراد الجماعة الدولية بأسرها دولا وحكومات ورؤساء وقادة وشعوب مخاطبين بأحكام المدونة العقابية الدولية التي تم تقنينها بموجب نظام المحكمة وكان للمحكمة الجنائية الدولية أن تباشر اختصاصها حيال أي متهم بارتكاب جريمة أو جرائم دولية بما تدخل في اختصاصها بقطع النظر عن جنسية الجاني أو صفته أو الحصانة التي يتمتع بها وبقطع النظر عن محل ارتكاب الجريمة.
ومهما يكن من أمر فلقد أنشأت المحكمة الجنائية الدولية وفقا لنظامها الأساسي إتباع أسلوب المعاهدات التي يحكمها مبدأ الأثر النسبي وبذلك يكون الحديث عن إنشاءها بأسلوب التوصية من الجمعية العمومية للأمم المتحدة هو كمن ينعى على اللبن المسكوب. فنحن أمام أمرٍ واقع ولكننا لا نستطيع إنكار اقتراب هذا الوضع من العدالة المنشودة على الصعيد الدولي, ولا مراء في هذا - فها نحن نشهد أول مدونه دولية جنائية موضوعيه إجرائية عقابية من خلال النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كما نشهد أول محكمة جنائية دولية دائمة يعرفها التاريخ وهذا ولا ريب تحقيقا لأحلام وأماني كانت تراود خيال الفلاسفة والشعراء لقرون طوال.
ويبقى التساؤل الملح ما هو الوضع الأمثل لعولمة العدالة الجنائية وهذا ما نختتم به بحثنا ونضع له تصورا نحلم به ونأمله. وهذا ما نطرحه في خاتمة البحث

خاتمة البحث
والرؤية المأمولة لعولمة العدالة الجنائية
استعرضنا من خلال هذا البحث المقصود بالنظام العالمي والمقصود بالتنظيم الدولي. ثم تطرقنا للإلماح إلى العولمة والمقصود بها حتى تنتهي لوضع تعريف لعولمة التشريع الجنائي وعولمة القضاء الجنائي وعولمة العدالة الجنائية.
وفي المبحث الثاني تحدثنا عن القانون الجنائي ومراحل تطوره منذ أن كانت مسألة تدويل مدونه جنائية عقابية محض فكرة حبيسة أذهان المفكرين, والفلاسفة حتى أصبحت واقعاً يفرض وجوده على الساحة الدولية بفضل ما أسفر عنه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والذي أتى ولأول مره في التاريخ بكود عقوبات وإجراءات دولي متكامل لينظم مسائل التقاضي والعقاب على الجرائم الدولية وقلنا أنه بذلك يكون قد تحقق حلم تدويل القانون الجنائي الذي يختص بحصر الجرائم الدولية وبيان ماهيتها وأركانها وبرصد عقوبات محدده عليها وبرسم الإجراءات الجنائية التي تنظم إجراءات التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية والتي تكفل ضمانات وحقوق المتهمين من وقت إسناد الاتهام إليهم وحتى صدور الأحكام بل أنه أنها قد جاءت لتنظيم مسألة مراقبة تنفيذ الأحكام السالبة للحرية وكيفية تنفيذها.
ومن خلال المبحث الثالث أشرنا إلى تطور القضاء الدولي الجنائي وانتهينا إلى أنه لم يتحقق تدويل القضاء الجنائي في أي من المراحل التاريخية حتى وقت إنشاء المحكمة الجنائية الدولية حيث كانت معظم المحاكمات التي كانت تتم لمجرمي الحرب كانت محاكمات يجريها المنتصرون للمهزومين كما كان القضاء ينعقد ليتم مهمة محددة وكان يتسم بالتأقيت مما كان يخل بمبدأ القاضي الطبيعي. كما أن غياب التشريع العقابي على المستوى الدولي كان يَصِمُ تلك المحاكمات بعدم الشرعية حتى أنشأت أول محكمة جنائية دولية يشهدها التاريخ بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي أصبح نافذا منذ عام 1998 ليتحقق بذلك عولمة القضاء الجنائي.
- و يبقى السؤال الذي طرحناه في ختام المبحث الرابع وهو هل تحققت العدالة الجنائية المجردة على الصعيد الدولي أو هل نحن نشهد تدويلا حقيقيا للعدالة الجنائية في ظل المحكمة الجنائية الدولية وما تضمنه نظامها الأساسي من مدونه جنائية دولية ؟
حتى يمكن القول بأن هناك عدالة جنائية دولية منزهة عن التدخلات السياسية واعتبارات المصالح لابد أولا من تعديل نظام الادعاء أو الإحالة للمحكمة الجنائية الدولية ليكون المدعي العام نائبا عن الجماعة الدولية ومتصرفاً فيما يحقق صوالحها ولا يكون لغيره هو والقضاء الدولي الجنائي حق التدخل في مجريات التحقيق والمحاكمة وهو ما يتحقق بإلغاء النص الذي يمنح مجلس الأمن مكنة إرجاء التحقيق أو المحاكمة في أي وقت أو المطالبة بعدم بدء التحقيق. ونرى أن ذلك يعد أملا ليس بالصعب أو المستحيل ولكنه ضرورياً كبداية لتحقيق عدالة جنائية دولية، وهذا هو أملنا الأول واليسير الذي ننهي به هذا البحث.
أما الأمل الأكثر صعوبة هو خلق آليات جديدة تفرض نفسها على النظام الدولي وتكفل تحقيق عولمة العدالة الجنائية المنشودة على الصعيد الدولي ونرى أو نأمل في أن تتمثل تلك الآليات في ثلاث محاور إذا ما تشكلت ارتسم مثلث عولمة العدالة الذي رسمناه في ذهننا عند كتابة هذا البحث وهذه الأضلاع الثلاثة لمثلث العدالة هي:
*
الضلع الأول أو الآلية الأولى: الآلية التشريعية الدولية
وفقا لما سبق نجد أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد أوجد أول كود جنائي وإجرائي دولي، ولكن لا يمكن القول بأن ذلك يمثل آلية التشريع المنشودة ولا يمكن القول بتحقق تدويل التشريع الجنائي بموجب هذا النظام الأساسي لماذا ؟.
(أ) المقصود بالآلية
الآلية هي الأداة التنظيمية التي تستخدم لأداء وظيفة معينه أو لتقوم بدور محدد له صفة الدوام.
(ب) لماذا لا يمكن اعتبار التقنين الجنائي المنصوص عليه بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بمثابة آلية تشريعية ؟
لا يمكن القول بذلك لسبب واحد وهو أن هذا التقنين المنصوص عليه بالنظام الأساسي للمحكمة لا يخاطب كل أفراد المجتمع الدولي إنما يخاطب بأحكامه الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي حسبما يقتضي مبدأ الأثر النسبي للمعاهدات.
ولكن كيف يمكن إيجاد آلية تشريعية قادرة على سن قوانين جنائية تخاطب بأحكامها كافة أفراد المجتمع الدولي دولا وحكومات وشعوبا وأفراد؟
في تصورنا أنه لابد من تحول جذري في النظام العالمي فالنظام الذي يدور حاليا في فلك مجلس الأمن يحمل معه بذور فنائه لقيامه على أسس غير عادله يقوم على أسس القوة لا القانون ويتحكم في مجريات الأحداث فيه الدول أصحاب العضوية الدائمة تلك الدول التي لا تكترث إلا بما يحقق صوالحها لا صوالح المجتمع الدولي برمته.
لهذا فنحن نأمل بأن تتفق الدول جميعا على إنشاء برلمان دولي يضم في عضويته دول العالم أجمعين فيكون عدد أعضائه مساو لعدد دول العالم ويكون لكل دولة فيه صوتاً واحداً مساوٍ في القوة والتأثير لصوت أي دولة أخرى يغيب عنه حق الفيتو ولا يسيطر عليه دولاً دائمة العضوية فكل أعضائه دائمين فتتساوي فيه حقوق وواجبات الأعضاء ويكون كل عضو بالبرلمان هذا ممثلا لدولته متحدثا باسم مصلحتها فإذا ما اتفقوا على أمر بالأغلبية المطلقة كان هذا الأمر محققا لمصالح المجتمع الدولي بآسره وليس لمصلحة دولة بعينها على حساب دولاً أخرى.
- فإذا ما تحقق هذا الأمل كنا بصدد آلية تشريعية حقيقية تسن التشريعات الدولية الجنائية أو غير الجنائية والتي تخاطب بأحكامها أفراد الجماعة الدولية قاطبة.
- وسيكون على هذا البرلمان في أول حياته أن يضع دستورا عالميا ينظم العلائق بين مؤسسات وآليات وهياكل هذا النظام العالمي الجديد الذي نأمله ويحدد اختصاصات البرلمان الدولي واختصاصات القضاء الدولي وهكذا.
فإذا ما سن هذا البرلمان الدولي القوانين الجنائية الدولية لن يمكن أن يزعم زاعم باصطدام ما يصدر عنه من قوانين بمبدأ سيادة الدول. كيف يتسنى هذا و التشريع الموضوع هو من صنع الدول جميعها ويلقي رضاء وقبول الدول كافة.
وبإنشاء هذا البرلمان الدولي تتحقق أولى آليات عولمة العدالة.
*
الضلع الثاني أو الآلية الثانية: الآلية القضائية الدولية
إذا ما سنت التشريعات الدولية عن طريق البرلمان الدولي بموافقته ورضاء أعضاء الجماعة الدولية فلابد من قضاء مستقل يسهر على تطبيق تلك التشريعات وإعمالها على الساحة الدولية بحيدة وتجرد حتى يمكن إنتاج عدالة دولية تؤدي إلى تحقيق احترام حقوق الإنسان وكرامته وتصون حياته.
ولقد كانت الآلية القضائية وبحق أول آلية تتحقق بالفعل كجزء من هذا الأمل فهي الآن واقعاً في ظل محكمة العدل الدولية الدائمة والمحكمة الجنائية الدولية غاية ما في الأمر أنها في ظل النظام العالمي المأمول ستكون مستقلة تماما وتستمد سلطاتها من الدستور العالمي الذي سنه البرلمان الدولي وسيمتد اختصاصاتها عبر الدول والحدود ولن تصطدم بمسألة سيادة الدول لأن الذي منحها سلطاتها واختصاصاتها ليس معاهدة أو نظام أساسي وإنما الدستور الدولي الذي جاء وليد رضاء أعضاء المجتمع الدولي بأسره.
ومن هنا لن يستطيع أحد الإفلات من سلطة المحكمة إذا ما اقترف جرما أو مخالفة للقوانين الدولية التي شرعها البرلمان الدولي أو ارتكب ما يهدد سلامة وأمن المجتمع الدولي..
وينبغي آنذاك أن يكون هناك فصلا مابين اختصاصات القضاء الوطني واختصاصات القضاء الدولي حيث يجب أن يكون اختصاص القضاء الدولي اختصاصاً استئثارياً وليس تكميليا كما هو الحال في المحكمة الجنائية الدولية فالمفترض أن ثمة جريمة دولية انعكست أثارها على البشرية وأرقت أمن المجتمع الدولي بآسره فكان لزاما أن ينعقد الاختصاص بها للقضاء الدولي وليس الداخلي
ومبررات هذا الرأي تكمن فيما يلي:
1- اختلاف القوانين في الدول واختلاف العقوبات سيؤدي إلى تطبيق عقوبات متباينة حيال ذات الجرم وهو ما يخل بمقتضيات المساواة و العدالة الجنائية الدولية.
فهناك من الدول مثلا ما لا يقر عقوبة الإعدام أيا ما كانت الجريمة في حين أن دولا أخرى تعترف بها كعقوبة تناسب في غلظتها أشد الجرائم خطورة.
2- اختلاف رؤية القاضي الدولي عن رؤية القاضي الوطني حيال الجريمة الدولية.
3- كثير من التشريعات الوطنية ما زالت خالية من تنظيم للعقاب على الجريمة الدولية (كجريمة الإبادة الجماعية – جريمة الفصل العنصري – جريمة شن حرب غير مشروعة)
ومن ثم فإننا نرى أن خضوع مرتكبي الجرائم الدولية جميعهم أما ذات القضاء و ذات القاضي و لذات القواعد الموضوعية والإجرائية وتمتعهم بذات الضمانات لا ريب يحقق العدالة المنشودة.
*
الضلع الثالث أو الآلية الثالثة: الآلية التنفيذية الدولية
إن قانونا بغير قضاء ينهض بإنفاذه لا يحمل المخاطبين بأحكامه على احترامه. كما وأن أحكاماً قضائية بغير جهة تسهر على تنفيذ تلك الأحكام لا تحمل إلا على الاستخفاف بأحكام هذا القضاء وعدم الاكتراث بها لذا فلابد من أن يكون هناك آلية تتولى تنفيذ ما يصدر عن القضاء الدولي من قرارات وأحكام ولابد من أن تتكون هذه الآلية من قوات مسلحة متعددة الجنسيات تتبع القضاء فلا تأتمر إلا بأمره ولا تنفذ إلا ما يصدر عنه من أحكام وقرارات ولا تخضع إلا لسلطان القضاء فتكون تلك الآلية بمثابة آلية تنفيذ دولية قضائية.
إذ أن مجرد اتخاذ تدابير سياسية أو اقتصادية أو إطلاق تصريحات الإدانة والشجب ضد من يخالف الشرعية الدولية لأمر مثير للسخرية ولا يحمل على احترام شرعية ولا على احترام حقوقا.
ختاماً فلقد كانت هذه الآليات الثلاثة هي آليات عولمة العدالة التي نحلم بها ونأملها فإذا ما اكتملت هذه الأضلاع الثلاثة لمثلث عولمة العدالة على أرجاء المعمورة لحل السلم والأمن الدوليين و لتحققت العدالة الدولية المنشودة والمجردة عن المصالح السياسية وعن سطوة الدول العظمى دائمة العضوية في هذا النظام العالمي الحالي البالي ولتحققت بذلك قوة القانون وانتفى قانون القوة الذي يحكم عالمنا المعاصر، ذلك القانون الذي تسهر على تكريسه وإنفاذه الولايات المتحدة الأمريكية وأعوانها من الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن.
وإذا كان ما عرضناه من مقترح قد يقال بشأنه أنه حلما محضا فلا ريب أن واقع اليوم هو أحلام الأمس فكم من واقع تحقق ظل حبيس الأذهان ومحض أحلام في أذهان البشر.
*
فإن الأمل المبني على الأسس السليمة أول خطى التطور وهو ما قصدنا عرضه من خلال هذا البحث
و الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
*

المراجع
[1] سورة الإسراء: الآية 70
[2] سورة البقرة: الآية 194.
[3] سورة الحجرات: الآية 9.
[4] أنظر تفصيلا الدكتور حسنين إبراهيم صالح عبيد: القضاء الدولي الجنائي – تاريخه – تطبيقاته. مشروعاته، ص42، دار النهضة العربية، القاهرة، ص1977، ص31
[5] الدكتور: أشرف شمس الدين: مبادئ القانون الجنائي الدولي، دار النهضة العربية، 1988، ص4 ».
[6] مراد جابر السعداوي: مصير مبدأ السيادة في ظل العولمة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 2003، ص19.
[7] دكتور: عمر جاد: كتاب التدخل الدولي بين الاعتبارات الإنسانية والأبعاد السياسية صادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية عام 2000م ص 25.
[8] مراد جابر السعداوي، المرجع السابق، ص21.
[9] مراد جابر السعداوي، المرجع السابق، ص22.
[10] الدكتور: محمد السعيد الدقاق، القانون الدولي، القاهرة، 1992، ص11، وما بعدها.
[11] الدكتور: فتوح عبد الله الشاذلي، أوليات القانون الدولي الجنائي، دار المطبوعات الجامعية، 2001، ص7 وما بعدها.
[12] الدكتور: حسنين عبيد: المرجع السابق، ص 31، وما بعدها.
[13] الدكتور: صلاح الدين عامر: تطور مفهوم جرائم الحرب ورقة بحثية، منشورة في كتاب المحكمة الجنائية الدولية – الموائمات الدستورية والتشريعية، إعداد المستشار / شريف عتلم، الطبعة الثالثة، 2005، ص108، 110.
[14] الدكتور: صلاح الدين عامر، المرجع السابق، ص113.
[15] المستشار: شريف عتلم، دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر في المنازعات المسلحة الدولية، مذكرات لدورة القانون الدولي الإنساني المنعقدة بمركز الدراسات القضائية، القاهرة، 2006، ص7.
[16] حول هذا المفهوم، الدكتور: مأمون سلامة: قانون الإجراءات الجنائية، طبعة نادي القضاة، 2005، ص7.
[17] الدكتور: محمد سامي الشوا: أصول علم الجزاء الجنائي، 2001، ص34، وما بعدها.
[18] سورة فاطر: الآية 18
[19] سورة القصص: الآية 8.
[20] هذا ما أكدت عليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في حكمها الصادر ضد الجنرال Krstic بقولها أن الهدف من مساءلة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لقواعد القانون الدولي الإنساني يتمثل في:
The need to punish an individual for the crimes committed and the need to deter other individuals from committing similar crimes
: No TT – 98 – 33 – T , 2 August , Pars , 693 , P , 243
أنظر القضية مشار إليها في د. أحمد أبو الوفا:" حكمان هامان تصدرهما المحكمة الخاصة بمجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة, المجلة المصرية للقانون الدولي, المجلد السابع والخمسون، 2001, ص 398.
[21] الدكتور / عادل عبد الله المسدي. المحكمة الجنائية الدولية (الاختصاص وقواعد الإحالة), دار النهضة العربية, الطبعة الأولى, 2002, ص 15 وما بعدها.
[22] د. عبد الوهاب حومد الإجرام الدولي، مطبوعات جامعة الكويت, الطبعة الأولى, 1978, ص 134.
[23] د. حسنين عبيد, المرجع السابق الإشارة إليه, ص 81 وما بعدها.
[24] د. عادل عبد الله المسدي, المرجع السابق, ص 31
[25] حول تعريف تلك الجرائم, د/ أحمد أبو الوفا, الملامح الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية، بحث منشور في كتاب المحكمة الجنائية الدولية الموائمات الدستورية والتشريعية، إعداد المستشار / شريف عتلم، الطبعة الثالثة، 2005, ص 22 وما بعدها.
[26] د. محمود شريف بسيوني: المحكمة الجنائية الدولية, نشأتها ونظامها الأساسي مع دراسة لتاريخ لجان التحقيق الدولية والمحاكم الجنائية السابقة, الطبعة الثانية. 2002, ص 32, ص 33
[27] د. عبد الواحد الفار، الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها, دار النهضة العربية, القاهرة 1966, ص 112
[28] أنظر د. محمود شريف بسيوني, المرجع السابق الإشارة إليه ص 39.
[29] الدكتور أحمد أبو الوفا, المرجع السابق, ص 21
[30] د. عادل عبد الله المسدي: المرجع السابق, ص 37
[31] الدكتور / أحمد أبو الوفا المرجع السابق, ص 25
[32] الدكتور / أحمد أبو الوفا المرجع السابق, ص 25.
[33] الدكتور / عادل عبد الله المسدي: المرجع السابق, ص 45 وما بعدها
[34] الدكتور: محمود شريف بسيوني: المرجع السابق، ص 3.
[35] الدكتور: أحمد أبو الوفا، المرجع السابق، ص 27، 28.
[36] حول هذا المعنى: الدكتور / حازم عتلم: نظم الادعاء أمام المحكمة الجنائية الدولية ص 169 وما بعدها.
[37] حول هذا الرأي: الدكتور / محمود شريف بسيوني ! المرجع السابق, ص 167 وما بعدها.
[38] حول هذا المعنى: الدكتور: حازم عتلم، نظم الادعاء أمام المحكمة الجنائية الدولية، ص171، ص172.
[39] الدكتور / عبد الرحيم صدقي: القانون الدولي. نحو تنظيم جنائي عالمي، مكتبة النهضة المصرية، ص 92







رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المحكمة الجنائية الدولية


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اجتهادات هامة أحوال ردين حسن جنود أهم الاجتهادات القضائية السورية 3 12-11-2018 09:31 AM
التحكيم في عقود B.0.T -Build-Operate-Transfer سامر تركاوي أبحاث في القانون الإداري 1 12-04-2011 06:40 PM
الحبس الاحتياطي الدكتور عبدالرؤف مهدى أبحاث في القانون المقارن 0 28-02-2011 06:34 AM
حمايــــة المســـتهلك المتعاقد عن بعد المحامية دينا حبال رسائل المحامين المتمرنين 1 24-04-2008 07:52 AM


الساعة الآن 10:31 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Nahel
يسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر>>>جميع المواضيع والردود والتعليقات تعبر عن رأي كاتيبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة المنتدى أو الموقع