منتدى محامي سوريا

العودة   منتدى محامي سوريا > المنتدى الثقافي > قصة

قصة القصص القصيرة والوجدانيات والخواطر العابرة التي تعبر عن ألوان الفصول الانسانية المتنوعة.

إضافة رد
المشاهدات 3696 التعليقات 2
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-06-2008, 01:55 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المحامي ناهل المصري
عضو أساسي ركن

الصورة الرمزية المحامي ناهل المصري

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


المحامي ناهل المصري غير متواجد حالياً


افتراضي محاكمة من نوع آخر

(1)
في عام (1985) وصل حازم إلى مرتبة متقدمة في القضاء، كان رجلاً في نحو الخامسة والأربعين من عمره، علاقاته الاجتماعية غنية بالصداقات حتى مع علية القوم من أصحاب النفوذ والتجار والأثرياء، وكان ذلك يفرض عليه أحياناً أن يتخلى عن قناعاته القانونية الإنسانية في سبيل إرضاء أحد الأصدقاء أو أحد المعارف المتنفذين. وفي شهر حزيران من ذلك العام عين في منصب هام في القضاء العالي..
قالت له زوجته بعد سماعها الخبر.
إنه خبر عظيم يا حازم، هذا يعني أننا سنقضي العطلة القضائية في أوربا؟
بالطبع سأفعل ما ترغبين به يا عزيزتي.. بودي أيضاً أن أرتاح لبعض الوقت؟
ورن جرس الهاتف، رفع السماعة: ألو .. نعم ..
أستاذ حازم مبروك سررنا جداً بهذا الخبر ؟
شكراً لك ..
تابع الصوت
قلت لنفسي إنها مناسبة للاحتفال بترفيعك، في أضخم فنادق العاصمة .. ما رأيك لو جهزت لك الدعوة يوم الثلاثاء القادم أي بعد غد؟
يوم الثلاثاء؟ لماذا ليس الخميس؟
لدينا اجتماع في (اوسلو) يوم الخميس، وقد أقيم في أوربا حتى نهاية الشهر لذلك أنا أصر على تنفيذ الدعوة .. ما رأيك؟
سأتصل بك بعد نصف ساعة لتأكيد الدعوة أو الاعتذار عنها.
لا أرجوك لا مجال للاعتذار.
سأحاول .. لا بأس .. مع السلامة. وضع السماعة، هه ما رأيك يا عزيزتي، إنه مدير (شركة الاستيراد والتصدير الدولية) ، يلح علي بقبول الدعوة إلى احتفال على شرفي في أحد الفنادق الفخمة بعد غد الثلاثاء
لماذا لم تعطه موافقتك؟
أوه .. يجب أن لا نكون لطيفين مع مثل هؤلاء أكثر من اللازم.
لقد أنقذته من ورطة في العام الماضي كادت تكلفه نصف مليون دولار .. ومدة طويلة في السجن.
لم يبخل معنا بشيء .. كان كريماً..
ماذا ستفعل؟
سأوافق بالطبع، ولكن سأتظاهر بأنني سأضحي بقبولي هذا الاحتفال
تعجبني فيك قدرتك على التعامل مع أنواع من البشر، يبدو التعامل معهم مستحيلاً .. ورن جرس الهاتف من جديد .. ارفع السماعة يا حازم
سمع صوت نسائياً:
مساء الخير أستاذ حازم.. ألف مبروك..
أهلا وسهلاً بارك الله فيك..
قالت المرأة على الطرف الآخر
بالتأكيد لست وحدك، اسمع سنلتقي في العاشرة بعد نصف ساعة، في بيتي، يجب أن أراك، بالتأكيد زوجتك إلى جانبك؟
نعم.. نعم..
إذن اتفقنا.. سأكون بانتظارك ..
مع السلامة..
سألته زوجته:
من كانت؟
سكرتيرة المحكمة تبلغني دعوة طارئة، حاولت الاتصال بي بالمكتب لم يرد الهاتف .. فاتصلت إلى هنا.. هه.. ماذا سنفعل الآن، إنها الساعة التاسعة والنصف؟ يا الهي؟
إذن نتعشى في هذه المناسبة السعيدة، أنا أقبل دعوتك إلى أي مكان تريده.. ما رأيك؟
يا إلهي كيف حدث ونسيت؟ أنا آسف يا عزيزتي، لدي موعد هام.. يتعلق بالعمل الجديد مع أحد المتنفذين، أنا آسف جداً، سأعوض لك هذا الوقت بالتأكيد لا توأخذيني.
آه.. لا بأس.
إن اتصل صاحبنا قولي له قبلت الدعوة بعد غد.. سأذهب الآن.
هل ستتأخر؟
سأحاول أن أعود باكراً.. إلى اللقاء يا حياتي.
(2)
وخارج بيت (حازم) كانت امرأة كبيرة السن تنتظر مع ابنها الشاب بفارغ الصبر:
لا فائدة يا بني لقد صدر الحكم بحق أخيك.
آه يا أمي برّأ ذلك القاضي القاتل الحقيقي، وألصق التهمة بأخي، إنه ظلم مخيف.
سيستأنف المحامي الحكم.. يقول إنه سيجمع الدلائل الكافية لتبرئة عادل.
يبدوا أنهم دفعوا مبلغاً كبيراً، ذلك القاضي عديم الضمير، لم يستند على قرائن سوى شهود زور دبروها لتبرئة القاتل ووضع اليد على أخي..
اهدأ يا بني.. اهدأ، كان حازم قد فتح الباب واتجه صوب سيارته همس الشاب:
إنه قادم.. هذا الوغد..
أرجوك اهدأ، اتفقنا أن نكلمه بهدوء، لعلَّ شيئاً في داخله يستيقظ.
رآهما حازم – ماذا تفعلان هنا؟
قال الشاب ساخراً: جئنا نشكرك يا سيدي على الحكم على أخي عادل، كنت عادلاً في الحكم عليه بالموت.
همست الأم باكية: أليس عندك أولاد؟ ألا تشعر بالذنب وأنت ترى حبل المشنقة الذي قد يطوق عنق شاب بريء؟
صرخ بهما – ابتعدا من هنا قبل أن أنادي الشرطي الواقف هناك.. استطيع اعتقالكما بتهمة التهجم على القانون.
قال الشاب وهو يكظم غيظه:
اسمع يا سيدي، سنقول لك كلمتين ونذهب، ما فعلته كان غلطة كبيرة لن يغفرها الله لك، عادل أخي بريء كل البراءة من التهمة التي ألصقوها به وأنت تعرف ذلك.
كانت الأم تبكي ....
آه من سوء حظ ولدي كان ماراً حين جرى إطلاق النار، وأسرع لإسعاف رجل رآه يتخبط بدمه.. آه يا ولدي يا حبيبي.
قال بحزم:
ولدك مجرم، لا تحاولي أن تظهريه بمظهر آخر.. كل الدلائل تدينه.
وكيف؟ لم تسمح له بالكلام؟
لا فائدة من كل ذلك، عندي عمل، وأنتما تعطلاني.. لماذا جئتما؟
لا تخف من هذه الناحية سيدي القاضي.. لست من هؤلاء الناس، مع أنك والله تستحق القتل، لظلمك وعدم شرعية عدالتك.
ولم يصبر على تجريحه فصرخ – أيها الشرطي.. أيها الشرطي.
همست الأم وهي تشد ابنها بعيداً:
إنه ينادي الشرطي لنذهب يا بني.
ولكن الشاب أوقف القاضي باحتقار:
قبل أن أذهب، جئت أبصق عليك وعلى عدالتك
ولكن الشرطي كان يقترب – لا يا بني.. لا.. لقد حضر الشرطي.. لا فائدة
أحنى الشرطي هامته – نعم يا سيدي القاضي ماذا تريد؟ هل يضايقانك؟
إنهما يتهجمان علي.
توسلت الأم – لا يا سيدي أرجوك سنذهب.. لن ترى وجهنا ثانية.
غمغم الشاب – سنلتقي أيها القاضي الفاضل.
قال الشرطي: أتأمرني بشيء يا سيدي.
لا.. لا بأس .. لقد ذهبا
كانت العجوز تدفعه من ظهره – هيا يا بني.. لنذهب لا فائدة، يبدو أن الضمير مات عنده..
كان حازم يفكر بهذه العجوز المزعجة.
فتح له الشرطي الباب – تفضل يا سيدي
شكراً لك.. مع السلامة
أدار محرك سيارته مبتعداً
(3)
فتحت له الباب بكامل أناقتها، صبت له الشراب.
سنقضي وقتاً ممتعاً.. بصحتك
تبدين في منتهى الأناقة.. والجمال
أعجبتك أناقتي أم جمالي؟
أنت امرأة كاملة يبدو أنك جهزت عشاءاً أيضاً؟
ألم أقل لك يجب أن نحتفل بهذه المناسبة إنها طريقتي في الاحتفال.. ألا تعجبك؟
تعجبني؟ إنها تدهشني تثير إعجابي.. آه ستكون ليلة ممتعة
اشرب يا حبيبي.. اشرب
صبت له كأساً جديداً وهي تداعبه.. كان منتشيا حين عرضت عليه مجموعة أوراق:
هذه القضية بين يديك يا حبيبي، أريد أن تنهيها.. أرجوك.
همس وهو يغرق رأسه في صدرها – ستكون باكورة قضاياي، سأنهيها من أجلك يا حلوتي.. هه..
وستكون هذه الليلة ملكي.. سأجعلك تتذكرها طوال حياتك.
بالطبع ازداد (حازم) إمعانا في إهمال القانون، وإرضاء أصدقائه وأصحابه من المتنفذين والتجار والأثرياء.. وفي نهاية ذلك العام في شهر كانون الأول سنة 1985 أصيب بنوبة قلبية نقل إثرها إلى المستشفى ولم تكن النوبة خطيرة إلى الحد الذي جعله يفكر بالموت.. فالعناية الصحية الفائقة طمأنته أن الموت لا يزال بعيداً عنه.
وبالطبع فإنَّ النوبة القلبية في ذلك السن وهو في الخامسة والأربعين، لا بد وأن تكون خطيرة ولكنه منذ أن شعر بأعراضها انتقل إلى المستشفى لذلك كانت خفيفة.. لم تشكل خطراً.. ولكنه استمر في منصبه ليهمل القانون، ويظلم الأبرياء، ويخرج القتلة والمجرمين من خلف القضبان ويضع عوضاً عنهم أناساً من الأبرياء ألصق بهم التهم.
وبالطبع ازدادت أمواله ورشاويه.. ولكن كيف يمكن لرجل أمّنه المجتمع على القانون، أن يزدريه بتلك الطريقة؟
والجواب واضح بالطبع، مادام قد تعوّد على ذلك، فمن الصعب أن يعود إلى رشده.. خاصة وأنه محاط بالأكابر وبسيدات المجتمع المخملي.
ولم يكن حازم من طبقة غنية، كانت عائلته فقيرة كثيرة العدد، ضحى والده بالكثير ليدرسه الحقوق في الجامعة وبعد أن تخرّج، التحق بالمحاماة، ثم انخرط في سلك القضاء متدرجاً، وقد عرف كيف يستغل منصبه في سبيل بسط نفوذه وتقويته، وقد بدأ يقدم التنازلات لصالح الكبار.. ورغم أن والده كان ينصحه كثيراً بالحفاظ على أخلاقه.. وظلّ يحاول تقويمه حتى وافاه الأجل
***
أصبحت أمه وحيدة بعد وفاة والده، ولم تهدأ عن الحديث معه حين يزورها عن العدالة والأخلاق وارتباطهما، حتى ابتعد كلياً عنها وعن تقريعها المستمر له.. وظل يقدم العون لإخوته وأخواته وهم ينظرون إليه بعين الرضى وقد حل مشاكلهم المالية.
(4)

وفي عام (1987) وعندما كان مدعواً للعشاء مع بعض مدراء المؤسسات القضائية، سقط فجأة يتلوّى من الألم
هيا يا جماعة لنحمله، يبدو أنها نوبة قلبية.
لنطلب له الإسعاف.. وننتظر.
الوضع لا يحتمل التأخير، هيا لننقله بأنفسنا إلى المستشفى.
هل نخابر زوجته؟
نعم.. سننقله إلى المستشفى المركزي.
وفي المستشفى أسرَّ الطبيب لزوجة حازم:
لا أكتمك يا سيدتي، وضعه خطير جداً.
تعني أنه سيموت؟
الأعمار بيد الله. عرّضنا القلب لأكثر من صدمة كهربائية. استجاب أخيراً ولكنه ينبض ببطء.. الوضع غير مطمئن.. قد يسكت القلب في أية لحظة.
يا ويلي.. ستموت يا حازم يا حبيبي.. آه.
اقتربت الابنة المراهقة: – ماما.. اهدئي.. يجب أن لا نفقد الأمل.
وفي داخل الجسد المسجى كان هناك شيء غير عادي يحدث ...
ما الذي يجري لي؟ كأنني أسحب من جسدي، كان يسمع الأصوات حوله.
يبدو أنَّ قلبه قد توقف.
أراد أن يتحدث إليهم:
أنا أسمع ما تقوله أيها الطبيب.. هه.. أنا أخرج من جسدي، أراه أمامي بوجهه المنطفئ الخامد، آه أصوات أجراس وصرير مزعج.. آه أشعر بألم شديد.. ما هذا النفق أمامي؟ آه.. إنني أقطعه بسرعة خارقة.. ماذا أرى؟ من هؤلاء الناس من حولي؟ .. آه.. إنه والدي كان والده يبتسم هكذا خيل له:
حازم لا تخف.. أنت معنا الآن قوِّ من عزيمتك سيراجعون سجل حياتك.
ولكن صوتاً تردد رجيعه بصدى مرعب: – تعال أيها القادم
تبعه صوت آخر:
سترى كشفاً عن أعمالك.. ما رأيك؟
كأن صوتاً انطلق منه: (وهل استطيع الرفض؟)
بالطبع لن تستطيع الرفض.. هه.. كنت صبياً صغيراً تحترم والديك، تساعد إخوتك، تستمع لنصح والدك.. وكنت مجتهداً في دراستك وتخرجت من الجامعة سريعاً، وصممت أن تعمل في المحاماة.
كان الصوتان يتبادلان الكلام حوله وهو يرى سجل حياته يعرض أمامه وقد وصل العذاب به إلى أقصى حد.
أنت سرقت مالاً من والدك، وقد أنقذتك والدتك من العقاب، كنت لا تفارق صديقك الثري، بسيارته الفارهة، حاولت أن تسرقه أيضاً وشعر بك، فأعطاك مبلغاً صغيراً من المال وبصق عليك.
إنها أعمالك السيئة وهي كثيرة.
لم تصبح أعمالك دنيئة وغاية في السوء ومدمّرة وشريرة إلا بعد أن دخلت سلك القضاء، ترددت لأول مرة في قبول الرشوة، ولكنك رأيت نفسك في سيارة فارهة وصاحب منزل فخم، وقد تزوجت من ابنة أحد زبائنك الأثرياء بعد أن خلصته من ورطة كادت تنهيه في المحكمة.. وكان الثمن الذي دُفع لك كبيراً: (الزواج من ابنته، ثم شقة فخمة كهدية).
وتتالى سقوطك، وحكمك الظالم على الناس، لم تترك أحداً إلا أسأت إليه. كل الأبرياء أصبحوا متهمين عندك.. وكنت ترتفع في سلم المناصب بخدمتك المطلقة لأسيادك.. من الأثرياء والمتنفذين.
(آه.. أشعر أن حياتي تمر أمامي، آه.. آه كم كنت حقيراً شريراً ..آه؟) كان يتعذب عذاباً مريعاً وهو يشعر بالاختناق وثقل سجل حياته البغيض..

قال الطبيب – البقية بحياتكم.. لقد انتهى.
بكت الزوجة – آه.. حازم.. حبيبي.. حازم..
هّدأتها الابنة – لا رادّ لقضاء الله يا أمي.
أكمل الطبيب – إذا أردت يا سيدتي سأوقّع ورقة استلام الجثة..
لا بأس يا دكتور سنأخذه إلى البيت، خابري أخوالك وجدّك يا ابنتي
ولكن والد الزوجة كان صلباً.
اسمعي.. لا أريد منك زيادة في الحزن.. زوجك مات، سنقيم له المأتم المناسب لمكانتك كابنة عائلة معروفة، زوجك ليس شيئاً، ورغم أنه خدم الكثيرين من المتنفذين والمنتمين لطبقتنا.. يظل أصله وضيعاً..
حاولتْ معه: – ولكنه زوجي وأبو أولادي..
أعرف ذلك، ولكن الأهم أن زوجك من أصل وضيع..
همستْ: – لقد خدمك كثيراً يا أبي..
وقبض الثمن.. ولم يكن ثمناً بخساً..
بكت – وكنتُ إحدى الصفقات؟ لماذا هذه القسوة يا أبي؟
سأتركك الآن. ولكن سأعود إليك، وأعيدك إلى وعيك إن ظلّ كلامك في هذا الاتجاه..
(5)
وتتابعت محاكمة حازم محاكمة من نوع آخر، عذابها كان أشدّ وأقسى..
كل ما فعلته كان ضد الخير.. أعطوك ثمناً بخساً لقاء الحكم على (عادل) وأنت تعلم أنه بريء
وعادل ليس إلا أحد النماذج التي حكمت عليها ظلماً؟
(يا الهي.. كأنني أرى حياتي تتجسد.. آه.. أي إنسان قاسٍ كنت؟)
ستتعذب بذكرياتك المليئة بالخيانة والغدر والفساد.. والأحكام الظالمة..
(آه.. أنا أتعذب.. أتعذب أتعذب.. آه..)
وتكفلت شركة لدفن الموتى بكل شيء، غسله وكفنه، والإشراف على المأتم
أتى بعض أصدقائه، يتكلمون مع والد زوجته:
شيء لا يصدق يا عم، مات بسرعة..
كنتُ معه حين أتته نوبة القلب..
نعم.. وبعض أصدقائه أيضاً.
أنا كنت قربه حين سقط يتلوّى على الأرض
عمهم الكهل – لا بأس.. لا بأس لا نريد أن نسمع القصة من جديد.
وأتت امرأة عجوز تبكي بحرارة قالت الزوجة: – إنها أم حازم يا أبي.
كيف لم تمنعوها من الدخول؟
قالت الزوجة: ماذا تقول يا أبي. إنها أمه؟
يجب ألا تبقى هنا كثيراً.
جلست تنحب قرب جسد ولدها المسجّى:
(آه يا ولدي.. أهي ميتة طبيعية هذه الميتة؟ لم أر أحداً يحبك فعلت الكثير من الأفعال الدنيئة من أجل المال، ومن أجل أن ترضي أهل زوجتك.. آه يا ولدي.. قطعت صلتك بنا، وفضلت أن تعيش بين أناس اخترتهم أنت، آه يا رب.. كانوا أسوأ الناس.. لم يزيدوك إلا فساداً واستهتاراً بحياة الآخرين..)
وتتابعت محاكمته – أعطيت لأهلك المال فتقبلوه في البداية، ولكن أمك العجوز بدأت ترفض أخذ المال منك.. نصحتك كثيراً بسلوك الطريق السوي, ولكنك لم تزدد إلا استهتاراً.
- وحين عرفتَ أنها مريضة في المستشفى وكانت حالتها خطرة، زرتها بعد إلحاح إخوتك وقد توسّلوا إليك وأنت تتصنع الغضب، من أن أمك العجوز كانت تسمعك الكلام الجارح كلما رأتك.
كانت المسكينة تسمع الناس يحكون عن سقوطك في مستنقع الفساد فتزداد حنقاً عليك.
كانت العجوز تتابع حديثها الموجه إلى الميت المسجى:
(كيف انتهيت هكذا يا حازم؟ وكيف سيكون حسابك، وأنت لم تفعل الخير في حياتك المهنية؟ ظلمت الأبرياء، ودست على القيم والأخلاق في سبيل المناصب والثروة والجاه.. آه يا ولدي.. كم تتعذب الآن؟ يا رب ارحمه، كان عاصياً، ولكنه تربّى في أسرة لا تعرف الحقد والظلم والكراهية)
(آه.. ما زالا يعرضان سجل حياتي.. كم كنت قاسياً فظاً؟ آه.. أشعر أنني أمرّ بلحظات رهيبة مخيفة.. آه.. كلما عرضا شيئاً أمامي، شيئاًَ فعلته في حياتي، أرى العذاب يتملكني.. إنه عذاب من نوع خاص.. آه).
وعاد الصوتان يتبادلان حوله الحوار الموجّه إليه:
كيف اتهمت عادل ذلك الشاب المسكين بجريمة لم يفعلها؟ أنت لا تعرفه إنه مثال الطيبة والأخلاق.
حتى مقابلتك لوالدته وأخيه كانت قاسية.. ازددت استهتاراً بأفعالك الدنيئة..
والدتك أمامك، أمام جثتك إنها تبكي وتطلب لك الرحمة، وأنت لا تستحقها. ولكنها امرأة طيبة ربتك على الأخلاق والقيم، فعثت فساداً.
(6)
قال والد الزوجة لمسؤول شركة الموتى:
القبر أصبح جاهزاً؟ يجب أن لا نتأخر في دفنه.. إكرام الميت دفنه..
نعم يا سيدي القبر جاهز.
إذن لننقله إلى المقبرة.. أنتم من شركة محترمة لدفن الموتى.. عجـّلوا بدفنه
سنصلي عليه أولاً..ثم ندفنه.
هيا قوموا بواجبكم سريعاً، ابنتي في حالة سيئة، وأريد أن تنسى بسرعة
كما تشاء يا سيدي
لم تتوقف أم حازم عن البكاء:
(كان بودي أن لا أراك تموت هكذا وأنت تحمل وزر هذا العدد الكبير من المظلومين)
اقترب منها مسؤول شركة الدفن – لو سمحت سنجهزه للدفن..
لماذا هذه السرعة؟ انتظروا حتى الظهر على الأقل..
هكذا يريد أهل زوجته..
همست الأم مفجوعة (نعم لا فائدة منه بعد الآن)..
ولكن مسؤول الشركة انتفض (يا إلهي ماذا يجري؟ الميت ينبض قلبه.. معقول).
جاء والد زوجة حازم.. ماذا حدث؟ انقلوه بسرعة.. يجب أن يدفن..
همس – سيدي، قلبه ينبض؟
ماذا تقول؟ إنه ميت هكذا أكد الطبيب.. أنت واهم بالتأكيد؟
ضع يدك هنا.. ضربات قلبه تزداد قوة..
همس الكهل والد الزوجة – معقول يا إلهي.. اسمع.. لا أحد يعرف سوى أنت، سأزيد المكافأة لك ولرجالك، لتدفنوه بسرعة. كيف عاش هذا الوغد من جديد؟
ولكن يا سيدي.. إنها مسؤولية كبيرة.. أن ندفن رجلاً حياً..
لن يعرف أحد بذلك.. سأضاعف المكافأة وأمنحك مكافأة خاصة شرط أن يدفن بسرعة.. اسمع إن عاد للحياة، سيعود مخبولاً، لا نريد أن نحتفظ بمخبول في بيت ابنتي.. هيا لا تتردد.
اقترب مسؤول الشركة من الأم المفجوعة – الأفضل أن تذهبي، سندفنه، سيأتي رجالي سريعاً لنقله.
اتركني اقبله وأودعه لآخر مرة.
ولكن الكهل والد زوجة ابنها صرخ: – ابتعدي عنه لا تلمسيه.
غضبت – إنه ابني.. سألقي عليه النظرة الأخيرة.. لماذا تصرخ هكذا؟ لم يعرف الخير منذ أن تعرف عليك وعلى ابنتك..
اذهبي من هنا أيتها الشمطاء قبل أن ألقي بك خارجاً..
بكت يائسة – كما تشاء.. لن أجادلك.. آه يا بني.. دمرت حياتك يا حازم.. بمصاهرة أناس بلا قلب ولا ضمير..
القوا بها خارجاً..
أوقفتهم – سأذهب،لا داعي لإلقائي خارجاً ألقت نظرة على ذلك الكهل وهي تغمغم:
قبحك الله يا وجه الشر..
ولكن الحياة دبت في الجثة من جديد وفي المسجد القريب من المقبرة، أطلق الميت آهة، أصابت المصلين بالذعر.. ورغم ذلك تابع الكهل ورجاله إجراءات الدفن.. فنقلوه بسرعة إلى المقبرة.. وفي الطريق رفع الميت رأسه وهو في الكفن..
(آه.. أين أنا؟ ما هذا؟)
همس مسؤول الشركة – ماذا ستفعل الآن؟ الجميع رأوه وهو ينهض.. سننزله.
قال والد الزوجة – استمروا في الدفن..
كيف يا سيدي؟ مستحيل.
كان حازم يصرخ: (خلصوني من هذا القماش السميك..آه) انتبه الناس له وهو يصرخ!
عاد إلى الحياة يا سبحان الله، تعال نساعده، انزلوا التابوت يا جماعة
بسرعة.. كاد الرجل أن يختنق من جديد..
(7)
انزلوا التابوت تأكدوا أنه حي فعلاً:
الحمد لله على سلامتك يا أستاذ حازم، قصة غريبة، هه.. عدت إلى الحياة ثانية
آه يا رأسي اشعر بصداع فظيع.
احضروا له ملابس، إنه عار تماماً داخل الكفن.
كان والد زوجه يكظم غيظه: (هذا اللعين كيف عادت إليه الحياة من جديد؟)
حين عاد حازم إلى وعيه روى قصة موته لبعض أصدقائه في حيهم القديم، ووصف بذعر كيف رأى أفعاله تتجسد أمامه، عذبته تلك الأفعال كثيراً.
لم يغير سلوكه فقط بل غير نفسه تماماً.. عاد يفتح سجلات محاكمه السابقة.. وببراعة أوجد المبرر لذلك، وأخذ يحكم في القضايا من جديد.. وبالطبع كان عادلاً الآن.
وفي بيته الفاره.
هذا المأفون يهددني أيضاً؟
لا أدري ماذا حصل له يا أبي، إنه يتصرف بجنون فعلاً.
يجب إيقافه عند حده، أصبح لا يطاق.
وطرق الباب في ساعة متأخرة، وتدفق الشرطة إلى بيت والد زوجته:
رجال الشرطة ماذا تريدون؟
معنا أمر بالقبض عليك يا سيدي.
أنا ؟ ماذا تقول؟
إنه أمر المحكمة.. أنت متهم بالقتل.
ماذا ؟ أنا ؟ وبالقتل ؟
قالت ابنته: – لا تقلق يا أبي سيخلصك حازم..
حازم ؟ معقول ؟ اسمع أيها الشرطي من الذي أمر بسجني؟
القاضي يا سيدي لقد أعاد فتح ملف الدعوى المقامة ضدك..
غمغم مذهولاً – إنه ذلك المجنون.. ليتهم دفنوه قبل أن يرفع رأسه في التابوت.. آه.. ماذا أفعل الآن؟
جهز نفسك يا سيدي، تفضل معنا.
سأحضر بعض الملابس والأشياء الضرورية.
رافقه يا عبّاس وراقبه جيداً.
***
كان حازم يمسك بيدي أمه ويقبلها وهو يبكي:
آه يا أمي وصلني صوتك الباكي، الذي يطلب لي الرحمة.. فأعادتني توسلاتك إلى الحياة، لأعيد الحقّ إلى أهله.. كم كنت قاسياً ظالماً.
الحمد لله الذي أعادك إلى صوابك.
سكني هنا سيجعلني في مأمن من مقابلة أشباه البشر أولئك.. آه يا إلهي كيف انحدرت إلى ذلك الدرك خلال تلك الفترة الطويلة من حياتي.
إنه الجشع والطمع وحب الرفاهية.. غرتك المناصب والأموال المتدفقة بين يديك وشجعك وجودك في وسط تخلى تماماً عن نزعة الخير.. وأصرّ على الاستمرار في الفساد.. ولكن ماذا عن زوجتك يا بني؟ ماذا عن أولادك؟
عرضت عليهم المجيء إلى هنا والسكن معي، ولكنهم رفضوا، حتى زوجتي رفضت.
بالطبع سيرفضون الحياة هنا، لم يتعودوا على البساطة، والتعاون والمحبة.
كان والد زوجته مستغرباً، يحادث المحامي:
أمعقول؟ يعيدون محاكمتي بعد عشر سنوات؟
هو الذي أعاد طلب المحاكمة.. كما أعاد طلب الكثير من المحاكمات الأخرى.
جيد أنه لم يطلب إعادة محاكمتي عن تلك التهمة قبل(25) سنة؟
تلك التهمة لا يستطيع توجيهها لك، لأنها سقطت بتقادم العهد.
وماذا سنفعل الآن؟
القرار مرتبط به.. ويبدو أنكم دعمتوه حتى وصل إلى درجة من الصعب التأثير عليه.
غمغم وهو يشد على أسنانه: (ليتني دفنته بيدي هذا النذل الحقير) .
على كل حال سنبذل ما في وسعنا لكسب القضية من جديد.
أيمكنك أن تطالب بتغيير القاضي؟
إذا برهنت أنه يكرهك ويحقد عليك شخصياً؟
هذا سهل، يمكنك أن تسأل ابنتي، زوجته السابقة.. أو حتى أولاده الذين يعيشون بيننا.
عظيم هذا سيسهل لنا المهمة.
أرجوك، أنت محامي الأسرة.. ابذل جهدك، حياتي في خطر.
إن شاء الله.
***
ومازال حازم حياً ولأن زوجته وأولاده رفضوا العيش معه في حيهم القديم.. فقد تزوج فتاة من حيه القديم، ورزق منها بولدين..
ولكن ماذا حدث لعادل ذلك المتهم بالقتل؟
لقد برأه حازم ووضع القاتل الحقيقي في السجن، أما عمه والد زوجته.. فلم يستطع المتابعة في محاكمته إذ أن محامي الأسرة تمكن من تغييره كقاضي.. وبرأ موكله من التهمة الموجهة إليه.. ثم عُزل من منصبه في القضاء عام (1990) وتحول من القضاء إلى المحاماة ومازال يمارس المحاماة حتى اليوم وهو محام ناجح تمكن من كسب الكثير من القضايا.. ولا ينسى أبداً تلك اللحظات التي مات فيها وشهد فيها محاكمة من نوع آخر، وحين عاد إلى الحياة غيّر أسلوب حياته برمته إنها قصة عجيبة فعلاً ولكنها حقيقية، وصاحبها يعيش الآن وهو في الرابعة والسبعين من عمره، وقد تحدث للعديد من الناس عن قصته مع الموت.. وانتشرت القصة.. واعتبرها البعض عبرة وموعظة.. تحذر من الانحراف مع الشر والفساد وهي كذلك فعلاً.




منقول بدون تصرف







التوقيع


يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون
آخر تعديل المحامي ناهل المصري يوم 21-04-2012 في 01:45 PM.
رد مع اقتباس
قديم 29-06-2008, 03:25 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
mohamad
عضو أساسي
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


mohamad غير متواجد حالياً


افتراضي Re: محاكمة من نوع آخر

شكراً على هذه القصة المؤثرة والجميلة جداً وإنها عبرة لمن إعتبر .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه







التوقيع

بسم الله الرحمن الرحيم
(( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى . واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون))
صدق الله العظيم سورة المائدة ـ الأية 8

آخر تعديل المحامي ناهل المصري يوم 21-04-2012 في 01:46 PM.
رد مع اقتباس
قديم 18-09-2009, 09:00 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
المحامية علياء النجار
عضو أساسي
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


المحامية علياء النجار غير متواجد حالياً


افتراضي رد: محاكمة من نوع آخر

كم قرأت هذه القصة ساعة التحميل ، و كم عدت قراءتها مراراً و لا أدري لها سراً لعلها بضع جمل انسابت في القصة لتدل دلالات ( ربما ) واضحات على سر العدالة و كنه انسانية المهنة :
اقتباس:
ما فعلته كان غلطة كبيرة لن يغفرها الله لك

ربما معظم الذين يرتكبون أخطائهم يدرون أنها كبيرة ,,,, و .. لكنهم يوقنون أن الله سيغفرها لهم !!!

اقتباس:
بريء كل البراءة من التهمة التي ألصقوها به وأنت تعرف ذلك


لو لم يعرف ما كان قاضياً مشهوراً ، ولو عرف برئه لكان قاضياً مغموراً

اقتباس:
ولكن كيف يمكن لرجل أمّنه المجتمع على القانون، أن يزدريه بتلك الطريقة؟

يدور في خلدي ذات السؤال

اقتباس:
أنت سرقت مالاً من والدك، وقد أنقذتك والدتك من العقاب

من هنا كانت البداية المشرفة!

اقتباس:
وكنت ترتفع في سلم المناصب بخدمتك المطلقة لأسيادك

متوقع أن يكون ( عبداً ) ولو كان اسمه ( قاضياً )

اقتباس:
ولكن الأهم أن زوجك من أصل وضيع..

اذا عرف السبب بطل العجب

اقتباس:
كان بودي أن لا أراك تموت هكذا وأنت تحمل وزر هذا العدد الكبير من المظلومين

تشابهت الأماني يا أم حازم

اقتباس:
لقد أعاد فتح ملف الدعوى المقامة ضدك

أحزنت قلبي الدعاوى التي لن تفتح بعد الآن

اقتباس:
عُزل من منصبه في القضاء عام (1990)

هذا مصير من يتجه أقصى اليمين أو أقصى اليسار

من جديد شكرا لمن وضع تلك العبر هنا ، و شكرا لك ايها الميت الحي فقد أنقذت أبرياء على وشك أنهم سيحاسبوك يوم الحساب ...



و دمتم







التوقيع

وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، أتصبرون ؟
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اجتهادات - أجر المثل المحامي مهند اسماعيل أهم الاجتهادات القضائية السورية 0 17-02-2011 01:54 PM
قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني أحمد الزرابيلي قوانين الجمهورية اللبنانية 0 08-11-2009 08:33 PM
قانون كرة القدم الدولي الشحات مرزوق المحامي قوانين عالمية 0 12-12-2006 11:07 AM
قانون الأحداث الجانحين رقم 18 لعام 1974 المحامي محمد صخر بعث موسوعة التشريع السوري 0 03-12-2006 03:36 PM
قانون شركات التامين العماني رقم 12 اسنة 1979 المحامي محمد فواز درويش قوانين سلطنة عُمان 0 03-05-2005 12:33 AM


الساعة الآن 01:55 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd
Translation by Nahel
يسمح بالاقتباس مع ذكر المصدر>>>جميع المواضيع والردود والتعليقات تعبر عن رأي كاتيبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة المنتدى أو الموقع